للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

ثم قال: أحببت أن أريكم كيف كان طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ومدلوله ظاهر، وهو أن يتمضمض ثلاثًا يأخذ لكل مرة ماءً جديدًا، ثم يستنشق كذلك.

ويدل لذلك ما رواه الطبراني عن طلحة بن مصرف، عن أبيه، عن جده كعب: أنَّ النبي الأعظم عليه السلام توضأ فمضمض ثلاثًا واستنشق ثلاثًا، فأخذ لكل واحدة ماءً جديدًا، ورواه أبو داود في «سننه» وسكت عنه، وما سكت عنه؛ فهو صحيح، وأمَّا ما في حديث الباب وغيره مما ورد من أنَّه تمضمض واستنشق بكف واحد بماء واحد؛ فهو محمول على بيان الجواز، ويحتمل أنَّه فعل ذلك بكف واحد بمياه متعددة، والمحتمل لا تقوم به حجة، أو يُرَدُّ هذا المحتمل إلى المحكم الذي ذكرناه؛ توفيقًا بين الدليلين، وقد يقال: إنَّ المراد استعمال الكف الواحد بدون الاستعانة بالكفين، كما في الوجه، وقد يقال: إنَّه فعلهما باليد اليمنى؛ ردًّا على من يقول: يستعمل في الاستنشاق اليد اليسرى؛ لأنَّ الأنف موضع الأذى كموضع الاستنجاء، كذا في «المبسوط».

والسنة: أن يكون المضمضة والاستنشاق باليد اليمنى، وقال بعضهم: المضمضة باليمنى، والاستنشاق باليسرى؛ لأنَّ الفم مطهرة، والأنف مقذرة، واليمين للأطهار، واليسار للأقذار، ولنا ما روى الحسن بن علي رضي الله عنهما: أنَّه استنثر بيمينه، فقال معاوية له: جهلت السنة، فقال: كيف أجهل والسنة من بيوتنا خرجت، أمَا علمت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اليمين للوجه، واليسار للمقعدة»، كذا ذكره «صاحب البدائع».

والترتيب بينهما سنة، كما في «الخلاصة»؛ لأنَّه لم ينقل عن النبي الأعظم عليه السلام في صفة وضوئه إلا هكذا، فالمضمضة والاستنشاق في الوضوء سنة، وفي الغسل فرض؛ لأنَّهما من تمام البدن، ولا حرج في غسلهما، هذا مذهب الإمام الأعظم ومن قال بقوله، وقال مالك والشافعي: إنَّهما سنتان في الوضوء والغسل معًا، والمشهور عن أحمد: أنَّهما واجبتان فيهما كمذهبنا، وذهب داود إلى أنَّ الاستنشاق فرض في الوضوء والغسل، وأنَّ المضمضة سنة فيهما، والله تعالى أعلم.

(ثم أخذ غَرفة) -بفتح الغين المعجمة- واحدة (من ماء)؛ بالمد، و (من) : للبيان مع إفادة التبعيض، (فجعل بها هكذا) : وإنَّما عطف بـ (ثم)؛ لوجود المهلة بين الغَرفتين، ثم بيَّن الإشارة بقوله: (أضافها)؛ أي: الغرفة، فترك العاطف؛ لبيان الإشارة (إلى يده الأخرى) : بأن جعل الماء في يديه معًا؛ لكونه أمكن في الغسل، (فغسل بها) أي: بالغرفة (وجهه) وللأصيلي: (فغسل بهما)؛ أي: باليدين، وظاهره أنَّه غسله مرة واحدة، وكذا فيما سيأتي؛ اقتصارًا على أدنى الوضوء، وعلى هذا فالظاهر أنَّ الغرفة الأولى تمضمض بها مرة، واستنشق بها مرة؛ ليطابق الجميع، كذا قيل، (ثم أخذ غَرفة) بفتح المعجمة (من ماء)؛ بالمد، و (من) : للبيان مع إفادة التبعيض كما قلنا، (فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غرفة) أخرى (من ماء) أيضًا (فغسل بها يده اليسرى، ثم مسح برأسه)؛ يعني: بعد أن قبض قبضة من الماء، (ثم نفض يده)، كما في رواية أبي داود مع زيادة: (مسح أذنيه)، ففي الحديث حذفٌ دل عليه ما رواه أبو داود، وقد خفي هذا على الكرماني فقدر المحذوف، زاد النسائي: (ومسح أذنيه مرة واحدة، باطنهما بالسباحتين، وظاهرهما بإبهاميه)، وزاد ابن خزيمة: (وأدخل أصبعيه فيهما) انتهى.

ولا يصير الماء مستعملًا؛ لأنَّ الماء ما دام على العضو لا يوصف بالاستعمال، فإذا انفصل عنه؛ صار مستعملًا سواء استقر في مكان أو لا على المعتمد، وعليه الفتوى، وقيل: لا يوصف بالاستعمال إلَّا إذا استقر في مكان، والثمرة تظهر فيما لو وضع أحد يده مثلًا تحت ماء الوجه فغسلها به؛ فعلى الأول لا يجزئه، وعلى الثاني يجزئه، والأصح الأول.

(ثم أخذ غرفة من ماء فرشَّ)؛ أي: صبه قليلًا قليلًا حتى صار غسلًا (على رجله اليمنى) : فالمراد بالرش: الغسل؛ بدليل قوله: (حتى)؛ أي: إلى أن (غسلها) لكن عبر عنه بالرش؛ احترازًا عن الإسراف الذي هو مظنة الرجلين، ووقع في رواية أبي داود والحاكم: (فرش على رجله اليمنى وفيها النعل، ثم مسحها بيديه؛ يد فوق القدم، ويد تحت النَّعل)، والجواب: أنَّ المراد بالمسح الغسل؛ لأنَّ المسح في كلام العرب يكون غسلًا، كما قاله ابن الأعرابي وأبو زيد الأنصاري.

وأمَّا قوله: (تحت النَّعل)؛ فمحمول على التجوز عن القدم على أنَّ هذه الرواية شاذة رواها هشام بن سعد، وهو ممن لا يحتج به عندهم عند الانفراد، فكيف إذا خالفه غيره؟! كذا في «عمدة القاري».

(ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله)؛ بغين معجمة وسين مهملة، من الغسل، كذا وقع في الأصول، وقال ابن التين: إنَّه بالعين المهملة، قال في «عمدة القاري» : إنَّه غريب، وتكلف، وتصحيف، والصواب ما في الأصول: (فغسل بها رجله)، قال زيد بن أسلم أو من هو دونه من الرواة: (يعني: اليسرى) : وفي رواية: (فغسل بها؛ يعني: رجله اليسرى).

(ثم قال) أي: ابن عباس: (هكذا رأيت رسول الله) : ولأبي الوقت: (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم يتوضأ) : جملة محلها النصب على الحال، وعبَّر بالمضارع؛ لأجل حكاية الحال الماضية، وفي رواية: (توضأ)؛ بحذف التحتية، وفي الحديث: البداءة باليمين، وهو مستحب على الصحيح، كما صرح به الإمام القدوري، وتبعه صاحب «الملتقى»، و «التنوير»، وغيرهما.

قال ابن قدامة في «المغني» : التيامن مستحب، ولا نعلم قائلًا بخلافه، ولأنَّه لا يعقل فيها إلَّا شرف اليمين، وذلك لا يقتضي عدمه العقاب، واختار المحقق الكمال بن الهمام في «فتح القدير» : أنَّه سنة، وتبعه العلامة الشرنبلاليُّ في كتبه، فيستحب التيامن في الوضوء والغسل، وكذا في التيمم، وكذا في مسح الخف، كما حرره في «منهل الطلاب»، وأمَّا الأذنان والخدان؛ فلا يستحب التيامن فيهما؛ لأنَّ الأذنين تبع للرأس وهو عضو واحد، والخدين تبع للوجه وهو عضو واحد، فإن كان المتوضئ أقطع؛ بأن كان له يد واحدة أو كان في إحدى يديه علة ولا يمكنه مسحهما معًا؛ فيستحب له أن يبدأ بالأذن اليمنى ثم باليسرى، وكذا يستحب له أن يبدأ بغسل الخد الأيمن ثم بالأيسر، كما يستفاد من كلام السراج، فقولهم: لا يستحب التيامن فيهما؛ مقيَّد بالصحة، كذا في «منهل الطلاب»، والله أعلم.

(٨) [باب التسمية على كل حال وعند الوقاع]

هذا (باب) طلب (التسمية) وهي قول: بسم الله (على كل حال)؛ يعني: سواء كان طاهرًا، أو محدثًا، أو جنبًا (وعند الوِقاع)؛ بكسر الواو؛ أي: الجماع، وهو من عطف الخاص على العام؛ للاهتمام به.

والحديث المسُوق هنا شاهد للخاص لا للعام، لكن لمَّا كان حال الوِقاع أبعد حالًا من ذكر الله ومع ذلك تسن التسمية فيه؛ ففي غيره أولى، ولهذا ساقه المؤلف هنا؛ لمشروعية التسمية عند الوضوء، ولم يسق حديث: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه»، مع كونه أبلغ في الدلالة؛ لكونه ليس على شرطه، بل هو مطعون فيه وبفرض صحته، فهو محمول على الكمال؛ كحديث: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد»، وأصح ما في التسمية حديث أنس: أنَّه عليه السلام وضع يده في الإناء الذي فيه الماء، وقال: «توضؤوا بسم الله...»؛ الحديث، ويقرب منه حديث: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله...»، وتمامه في «عمدة القاري».

[حديث: لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال بسم الله]

١٤١ - وبه قال: (حدثنا علي بن عبد الله) أي: ابن المديني (قال: حدثنا جرير) : هو ابن عبد الحميد، (عن منصور) :

<<  <   >  >>