للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

هو تشديد الدَّال وتشديد الهاء أيضًا.

قلت: ولا منع من ذلك من حيث قاعدة التصريف، ولكن رعاية السماع أولى مع رعاية المناسبة بين المعطوف والمعطوف عليه، انتهى.

(لا يرون) أي: من سلف من الصحابة والتابعين (به) أي: باستعمال عِظام الموتى (بأسًا)؛ أي: حرجًا، فلو كان نجسًا؛ لما استعملوه امتشاطًا وادهانًا، وعلم منه ضرورة أنه إذا وقع منه شيء في الماء؛ لا يفسده؛ لأنَّه طاهر، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور؛ لأنَّه لا تحله الحياة، ولحديث أم سَلَمَة رضي الله عنها مرفوعًا: «لا بأس بمسك الميتة إذا دُبِغ، ولا بشعرها إذا غُسِل بالماء»، ولحديث ابن عباس: (إنما حرم من الميتة ما يؤكل منها، وهو اللحم، فأمَّا السن، والجلد، والعظم، والشعر، والصوف؛ فهو حلال)، رواهما الدارقطني وغيره، وقال البيهقي: وقد روى عبد الجبار بن مسلم عن الزُّهري شيئًا بمعناه.

وزعم ابن بطال أن حديث أم سَلَمَة رواه يوسف بن أبي السفر، وهو متروك.

وردَّه في «عمدة القاري» : بأنَّه لا يؤثر فيه ما قال إلا بعد جهته، والجرح المبهم غير مقبول عند الحذاق من الأصوليين، وكان هو كاتب الأوزاعي، وقال ابن حبيب: أجاز الليث، وابن الماجشون، وابن وهب، ومطرف، وإصبغ: الامتشاط بها، والادهان فيها، وقال الليث وابن وهب: إن غلا العظم في ماء سخن وطبخ؛ جاز الادهان منه، والامتشاط فيه، وقال مالك والشافعي: عظم الفيلة ونحوه نجس؛ لما رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمَّد، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: أنه كان يكره أن يدهن في مدهن من عِظام الفيل، وقال ابن المواز: نهى مالك عن الانتفاع بعظم الميتة والفيل، ولم يطلق تحريمها؛ لأنَّ عروة، وابن شهاب، وربيعة أجازوا الامتشاط بها، وقال مالك: إذا ذكي الفيل؛ فعظمه طاهر، وقال الشافعي: الذكاة لا تعمل في السباع؛ فهو نجس؛ لأنَّه تحله الحياة، قال تعالى: {قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ*قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: ٧٨ - ٧٩].

قلت: ما رواه الشافعي لا يدل على أنه نجس؛ لأنَّه موقوف عليه، والكراهة لا تفيد النَّجاسة، بل يفيد الطهارة مع كراهة التنزيه، فيجوز استعماله، لا سيما وقد روي ذلك مرفوعًا إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فكيف يترك العمل بالحديث المرفوع؟! وأيضًا الآية لا تدل على ما قاله؛ لأنَّ معنى إحياء العظام: ردها إلى ما كانت عليه غضة رطبة في بَدَنٍ حيٍّ حساس؛ بدليل أن أجزاء الإنسان تفرق في مشارق العالم ومغاربه، ويصير بضعه في أبدان السباع، وبعضه في حواصل الطيور، وبعضه في جدران المنازل، فيجمعها سبحانه وتعالى ويردها كما كانت عليه، وهذا معنى الآية، فالعظم لا تحله الحياة؛ فافهم.

(وقال ابن سيرين) : هو محمَّد التابعي المشهور (وإبراهيم) : هو النخعي، وأسقط أكثر الرواة ذكر إبراهيم النخعي، أمَّا تعليق ابن سيرين؛ فذكره عبد الرزاق عن الفربري، ولفظه: (أنه كان لا يرى بالتجارة في العاج بأسًا)، وفي بعض الروايات ذكر إبراهيم النخعي، ولم أر من الشراح من ذكر لفظ أثره، ولعله باللفظ الذي ذكره المؤلف بقوله: (لا بأس) أي: لا حرج (بتِّجارة العاج)؛ أي: بتجارة في العاج، والتِّجارة؛ بكسر المثناة الفوقية، وفي بعض النسخ: (بنُّجارة)؛ بالنُّون المضمومة، من النجر؛ وهو القشر والخرط؛ والمعنى: لا بأس باستعمال نشارة (١) العاج؛ لأنَّها طاهرة، والرواية المصححة: أنه بالمثناة، ويحتمل أن النجارة؛ بالنُّون محرفة عنها، أو غلط من الناسخين؛ فافهمو (العاج)؛ بتخفيف الجيم، جمع عاجة، قال الجوهري: العاج: عظم الفيل، وكذا قال في «العباب»، ثم قال: (والعاج أيضًا: الذَّبل؛ وهو ظهر السلحفاة البحرية، يتخذ منه السوار، والخاتم، وغيرهما، وقال جرير:

ترى العبس الحولي جونًا بكوعها (٢) ... لها مسكًا من غير عاج ولا ذبل

فهذا يدل على أنَّ العاج غير الذَّبل، وفي «المحكم» : العاج: أنياب الفيلة، ولا يسمى غير الناب عاجًا، وقد أنكر الخليل أن يسمى سوى أنياب الفيلة، وذكر غيره أن الذَّبل يسمى: عاجًا، وكذا قاله الخطابي، وأنكروا عليه، والذَّبْل؛ بفتح الذال المعجمة، وسكون الموحدة، قال الأزهري: الذَّبل: القرون، فإذا كان من عاج؛ فهو مسك وعاج، ووقف، وإذا كان من ذبل؛ فهو مسك لا غير.

وزعم ابن حجر قال القالي: العرب تسمي كل عظم: عاجًا، فإن ثبت هذا؛ فلا حجة في الأثر المذكور على طهارة عظم الفيل.

وردَّه في «عمدة القاري» بقوله: (قلت: مع وجود النقل عن الخليل لا يعتبر نقل القالي مع ما ذكرنا من الدليل على طهارة عظم الميتة مطلقًا) انتهى؛ أي: سواء كانت من مأكول اللحم أو غيره، والمراد من الدليل: الأحاديث المرفوعة إلى النبيِّ الأعظم عليه السَّلام، كما وقفت عليها؛ فافهم.

فالأحاديث والآثار في هذا الباب تدل صريحًا على أنَّ عظام الميتة طاهرة مطلقًا، وهو مذهب ابن سيرين وإبراهيم النخعي، فإن أثرهما يدل على الطهارة مطلقًا، كما ذكرنا، ويدل لذلك ما ذكره ابن الملقن من أنه روي عن النبيِّ [عليه] السَّلام: (أنه امتشط بمشط من عاج)، وروى أبو داود: أنه عليه السَّلام قال لثوبان (٣) : «اشتر لفاطمة سوارين من عاج»، لكنهما ضعيفان.

قلت: لكنهما قد تعددت طرقهما، وبتعدادها يتقويان؛ فافهم.

وزعم القسطلاني: أن إيراد المؤلف لهذا كله يدل على أنَّ عنده أن الماء قليلًا كان أو كثيرًا لا ينجس إلا بالتغيير، كما هو مذهب مالك، انتهى.

قلت: ولا يلزم من إيراده لها أن يكون عنده كذلك؛ لأنَّ مراده بيان المذاهب من الصحابة والتابعين لا بيان مذهبه، على أنه لو كان مذهبه هكذا؛ لأورد حديثًا يدل لما عنده مع أنه قد أنكر حديث القلتين هو وأشياخه، وبعضهم ضعفه من حيث السند والمتن، وقد بسطنا الكلام عليه فيما مضى، والله أعلم.

[حديث: ألقوها وما حولها فاطرحوه]

٢٣٥ - وبه قال: (حدثنا إسماعيل) : هو ابن أبي أويس (قال: حدثني) بالإفراد (مالك) : هو ابن أنس الأصبحي، (عن ابن شهاب) : زاد في الرواية: (الزُّهري)؛ أي: محمَّد بن مسلم، (عن عُبيد الله)؛ بالتصغير، بضمِّ العين (بن عبد الله)؛ بالتكبير، زاد في رواية: (ابن عُتْبَة بن مسعود)، (عن ابن عباس) رضي الله عنهما، (عن ميمونة) : أم المؤمنين بنت الحارث خالة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سُئل)؛ بضمِّ السين المهملة، مبنيًّا للمفعول، قال القسطلاني: ويحتمل أن يكون السائل ميمونة.

قلت: وهذا الاحتمال بعيد؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لقالت: قلت: يا رسول الله عليه السَّلام، ولم تقل: (سُئل)؛ بالبناء للمجهول؛ لأنَّها لو كانت هي السائلة؛ يلزم منها بالإبهام صفة الكبر والعجب، وهي وأمثالها منزهة عن ذلك؛ فليحفظ، فالتحقيق أنه لم يعلم السائل، (عن فأْرة)؛ بهمزة ساكنة، وجمعها: فأر؛ بالهمز أيضًا، وقد تبدل الهمزة ألفًا (سقطت)؛ أي: وقعت (في سمن)؛ أي: جامد، كما في رواية النسائي عن مالك، وزاد المؤلف في (الذبائح) : (فماتت)؛ لأنَّها في حال حياتها طاهرة، وهو مذهب الإمام الأعظم وأصحابه جميعًا بلا خلاف بينهم، وهو مذهب مالك والجمهور، وعند الشافعي: هي نجسة، كما زعمه ابن العربي؛ فافهم، (فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (أَلقوها)؛ أي: الفأرة؛ بقطع الهمزة المفتوحة؛ أي: ارموها (وما حولها)؛ أي: وما حول الفأرة من السمن، ويعلم من هذه الرواية: أن السمن كان جامدًا، كما صرح به في الرواية الأخرى؛ لأنَّ المائع لا حوله (٤) له؛ إذ الكل حوله، قاله صاحب «عمدة القاري» رحمه الله، ورضي الله عنه، وقوله: (فاطرحوه) : ثبت في رواية؛ ومعناه: اطرحوا الملقي (٥) من الفأرة وما حولها، وهذا مراد من عبر بـ (اطرحوا) بالجميع، ويكون تأكيدًا لما قبله، (وكلوا سمنكم)؛ أي: الباقي؛ لعدم تنجسه بسريان النَّجاسة إليه؛ لأنَّه جامد؛ لأنَّ الجامد لا يسري بعضه إلى بعض، بخلاف المائع، قال في «عمدة القاري» : وفي الحديث: أن السمن الجامد إذا وقعت فيه فأرة أو نحوها؛ تُطْرَحُ الفأرة، ويؤخذ ما حولها من


(١) في الأصل: (بشارة)، وهو تصحيف.
(٢) في الأصل: (الفيل يجري وجوه بكعوبها)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٣) في الأصل: (لنوبان)، وهو تصحيف.
(٤) في الأصل: (لا حول)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٥) في الأصل: (الملقو)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>