للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

والكافر؛ لكونه مخاطبًا بالتوحيد قطعًا، وبباقي الأعمال على الخلاف.

فالمانع من الثاني يقول: إنَّما يُسألون عن التوحيد فقط للاتفاق عليه، وإنَّما التعميم هنا في قوله: {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، فتخصيص ذلك بالتوحيد تحكُّمٌ، ولا تنافي بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَاّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: ٣٩]؛ لأنَّ في القيامة مواقف مختلفة وأزمنة متطاولة، ففي موقف أو زمان يُسألون، وفي آخرَ لا يُسألون، أو لا يُسألون سؤال استخبار، بل سؤال توبيخ وتقريع، اهـ؛ فليحفظ.

(وقال) وفي رواية بدونها ({لمثل هذا})؛ أي: لنيل مثل هذا الفوز ({فليعمل العاملون}) [الصافات: ٦١]؛ أي: فليؤمن المؤمنون، وهذا يشير إلى أنَّ الإيمان هو العمل، لكن اللفظ عام، ودعوى التخصيص بلا دليل لا تُقبل، إلَّا أنَّ إطلاق العمل على الإيمان صحيح؛ من حيث إنَّ الإيمان هو عمل القلب، ولا يلزم أن يكون العمل من نفس الإيمان، وغرض المصنف جواز إطلاق العمل على الإيمان الذي هو عمل القلب؛ وهو التصديق؛ فليحفظ.

[حديث: أنَّ رسولَ الله سُئِل: أيُّ العمل أفضل؟]

٢٦ - وبه (حدثنا أحمد ابن يونس) نسبة إلى جده؛ لشهرته به، واسم أبيه: عبد الله اليربوعي، التميمي، الكوفي، المتوفى في ربيع الآخر سنة سبع وعشرين ومئتين.

(و) كذا حدثنا (موسى بن إسماعيل) المِنْقَري؛ بكسر الميم المتقدم (قالا) بالتثنية: (حدثنا إبراهيم بن سعد)؛ بسكون العين: ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف المتقدم، (قال: حدثنا ابن شهاب) محمد بن مسلم الزُّهري، (عن سعيد بن المُسيِّب)؛ بضم الميم، وكسر المثناة التحتية، والفتح فيها أشهر، وكان يكرهه، ابن حَزْن؛ بفتح المهملة وسكون الزاي، التابعي، المتوفى سنة ثلاث وتسعين، وهو زوج بنت أبي هريرة، وأبوه وجده صحابيان، (عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل) بالبناء للمفعول في محل رفع خبر (أن)، وأبهم السائل؛ وهو أبو ذر، وحديثه في العتق: (أي العمل أفضل؟)؛ أي: أكثر ثوابًا عند الله تعالى؛ وهو مبتدأ وخبر، (قال) وفي رواية: (فقال) عليه السلام: هو (إيمان بالله ورسوله، قيل) مجهول (قال)، أصله: (قَوِل) نقلت كسرة الواو إلى القاف بعد سلب حركتها، فصار (قِوْل)؛ بكسر القاف وسكون الواو، قلبت الواو ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، فصار (قِيل)، والقائل هو السائل الأول: (ثم ماذا؟)؛ أي: أي شيء أفضل بعد الإيمان بالله ورسوله؟ (قال) عليه السلام: هو (الجهاد في سبيل الله)؛ لإعلاء كلمة الله (قيل: ثم ماذا) أفضل؟ (قال) عليه السلام: هو (حج مبرور)؛ أي: مقبول؛ أي: لا يخالطه إثم ولا رياء، وعلامة قبوله: أن يكون حاله بعد الرجوع خيرًا مما كان قبله، وفي حديث أبي ذر ذكر العتق ولم يذكر الحج، وفي حديث ابن مسعود بدأ بالصلاة ثم بالبر ثم الجهاد، وفي الحديث السابق السلامة من اليد واللسان.

وقد أجيب: بأن اختلاف الأجوبة في ذلك؛ لاختلاف أحوال الأشخاص، وإنَّما قدم الجهاد على الحج؛ للاحتياج إليه أول الإسلام، وإنَّما عرَّفه دون أخويه؛ لأنَّ المعرَّف بلام الجنس كالنكرة في المعنى، أو لأنَّ الإيمان والحج لا يتكرر وجوبهما فنُوِّنا للإفراد، والجهاد قد يتكرر فعُرِّف، والتعريف للكمال هنا.

(١٩) [باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة]

(باب) بالتنوين يجوز فيه وجهان؛ الإضافة إلى الجملة بعده، وتكون (إذا) ظرفية محضة والتقدير: (باب حين عدم كون الإسلام... إلى آخره)، وأن ينقطع عن الإضافة، وتكون (إذا) متضمنة معنى الشرط، والجزاء محذوف، والتقدير: باب (إذا لم يكن)؛ أي: إن لم يكن (الإسلام على الحقيقة) الشرعية (وكان على الاستسلام)؛ أي: الانقياد الظاهر فقط والدخول في السلام، (أو) كان على (الخوف من القتل) لا ينتفع به ولا ينجيه في الآخرة، وعلى كلٍّ: فارتفاع (باب) على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا باب إلى آخره، (لقوله تعالى) وفي رواية: (عز وجل) : ({قَالَتِ الأَعْرَابُ})؛ بفتح الهمزة: أهل البدو، ولا واحد له من لفظه، وسمِّيت العرب؛ لأنَّه نشأ أولاد إسماعيل عليه السلام بعربة؛ وهي من تهامة، فنسبوا إلى بلدهم، ومقول قولهم: ({آمَنَّا}) نزلت في نفر من أسد بن خزيمة قدموا المدينة في سنة جدبة، وأظهروا الشهادتين، وكانوا يقولون لرسول الله عليه السلام: أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، يريدون الصدقة ويمنون، فقال الله لرسوله: ({قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا})؛ لأنَّ الإيمان تصديق مع طمأنينة قلب ({وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا})؛ لأنَّ الإسلام انقياد ودخول في السلم والخروج عن أن يكون حربًا للمؤمنين بإظهار الشهادتين، ألا ترى إلى قوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: ١٤]؟ فإنَّ كل ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب؛ فهو إسلام، وما واطأ القلب فيه اللسان؛ فهو إيمان.

والمعنى: لا تقولوا: آمنا، ولكن قولوا: أسلمنا؛ لأنَّكم لم تؤمنوا، وفيه حجة على الكرَّامية المرجئة في قولهم: الإيمان إقرار باللسان فقط ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة: ٢٢]، ولم يقل: كتب في ألسنتهم؛ وكذا الإجماع على كفر المنافقين مع كونهم أظهروا الشهادتين.

(فإذا كان) الإسلام (على الحقيقة) الشرعية المرادف للإيمان النافع عند الله؛ (فهو على قوله جل ذكره: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلامُ}) [آل عمران: ١٩]؛ أي: لا دين مرضي عنده سواه، وفتح الكِسائي همزة {إن} على أنه بدل من {أنه} بدل كل من كل؛ إِنْ فُسِّر الإسلام بالإيمان، وبدل اشتمال؛ إِنْ فُسِّر بالشريعة، واستدل المؤلف بهذا على أن الإسلام الحقيقي هو الدين، وعلى أن الإسلام والإيمان مترادفان، وهو قول جماعة من المحدثين، وجمهور المتكلمين، والمعتزلة، واستدلوا بقوله: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المُؤْمِنِينَ*فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المُسْلِمِينَ} [الذاريات: ٣٥ - ٣٦]، والأصل في الاستثناء: كون المستثنى من جنس المستثنى منه، فيكون الإسلام هو الإيمان.

واعتُرض بقوله تعالى: {قلْ لم تؤْمُنوا ولكِنْ قُولوا أَسْلَمنا}، وأجيب: بأنَّ الإسلام المعتبر في الشرع لا يوجد بدون الإيمان، وهو في الآية؛ بمعنى الانقياد في الظاهر دون الباطن، وبالجملة: لا يصح في الشرع أن يحكم على أنه مؤمن وليس بمسلم، أو مسلم وليس بمؤمن، ولا نعني بوحدتهما سوى هذا.

وظاهر كلام أئمتنا: أنهم أرادوا عدم تغايرهما؛ بمعنى: أنه لا ينفك أحدهما عن الآخر، لا الاتحاد بحسب المفهوم لما ذكر في «الكفاية شرح الهداية» من أن الإيمان: هو تصديق الله فيما أخبر به من أوامره ونواهيه، والإسلام: هو الانقياد والخضوع لألوهيته، وذلك لا يتحقق إلَّا بقبول الأمر والنهي، فالإيمان لا ينفك عن الإسلام حكمًا فلا يتغايران، ومن أثبت التغاير؛ يقال له: ما حُكم من آمن ولم يسلم أو أسلم ولم يؤمن؟ فإن أثبت لأحدهما حكمًا ليس بثابت للآخر؛ والأظهر بطلان قوله، وقدمنا ما يتعلق بهذا؛ فافهم.

واستُدِلَّ أيضًا بقوله تعالى: ({وَمَن يَبْتَغِ})؛ أي: من يطلب ({غَيْرَ الإِسْلامِ})؛ أي: غير التوحيد والانقياد لله تعالى ({دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}) [آل عمران: ٨٥] جواب الشرط، فلو كان الإيمان غير الإسلام؛ لم يقبل قط، فتعيَّن أن يكون عينه؛ لأنَّ الإيمان هو الدين، والدين هو الإسلام لقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلامُ}، فينتج أن الإيمان هو الإسلام، وسقط في رواية قوله: ({وَمَن يَبْتَغِ} ... إلى آخره).

[حديث: أن رسول الله أعطى رهطًا وسعد جالس]

٢٧ - وبه قال: (حدثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع الحمصي (قال: أخبرنا) وللأصيلي: (حدثنا) (شعيب)؛ هو ابن أبي حمزة الأموي، (عن الزهري) محمد بن مسلم (قال: أخبرني) بالإفراد (عامر بن سعد)؛ بسكون العين (بن أبي وقَّاص)؛ بتشديد القاف مالك القرشي، المتوفى بالمدينة سنة ثلاث ومئة، (عن) أبيه (سعد) المذكور، أحد العشرة المبشرين بالجنة، المتوفى آخرهم بقصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة سنة سبع وخمسين، وحُمِل إلى المدينة، ودفن بالبقيع، (رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى) شيئًا من الدنيا (رهطًا) من المؤلَّفة لما سألوه؛ ليتألَّفهم لضعف إيمانهم، و (الرهط) : العدد من الرجال لا امرأة فيهم من ثلاثة إلى عشرة، لا واحد له من لفظه، وجمعه: أرهط، وأراهط، وأرهاط، وأراهيط، (وسعد جالس) جملة اسمية وقعت حالًا، ولم يقل: وأنا جالس؛ تواضعًا أو من باب الالتفات من التكلم إلى الغَيبة، قال سعد: (فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا) من الرهط؛ وهو جعيل بن سراقة الضمري المهاجري (هو أعجبهم إليَّ)؛ أي: أفضلهم أو أحبهم إليّ، والجملة نصب صفة لـ (رجلًا)، وإنما قال: (إليَّ)؛ على طريق الالتفات، (فقلت: يا رسول الله؛ مالك عن فلان؟)؛ أي: أيُّ سبب لعدولك عنه إلى غيره، و (فلان)؛ كناية عن اسمٍ أُبْهِمَ بعد أن ذكر، (فوالله؛ إنِّي لأَراه مؤمنًا) بفتح الهمزة؛ أي: أعلمه، وفي رواية: بضمها؛ بمعنى أظنه، (فقال) وفي رواية: (قال)؛ أي: عليه السلام: (أوْ مسلمًا)؛ بسكون الواو، إضرابٌ عن قول سعد، ومعناه: النهي عن القطع بإيمانه، لا إنكاره مؤمنًا، قال سعد: (فسكتُّ) سكوتًا (قليلًا ثم غلبني ما)؛ أي: الذي (أعلم منه) من المحبة (فعدت)؛ أي: فرجعت (لمقالتي) مصدر ميمي بمعنى القول؛ أي: لقولي، وفي رواية: بسقوط (لمقالتي)، (فقلت) : يا رسول الله؛ (ما لك) عدلت (عن فلان؟ فوالله؛ إنِّي لَأراه)؛ أي: أعلمه وأظنه (مؤمنًا، فقال) عليه السلام: (أو مسلمًا، فسكت) سكوتًا (قليلًا)، وفي رواية: سقط لفظ (فسكت قليلًا) (ثم غلبني ما)؛ أي: الذي (أعلم منه) من الصحبة (فعدت لمقالتي، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: لمقالته، وإنما لم يقبل قولَه؛ لأنَّه لم يخرج مخرج الشهادة؛ بل هو مدح له، وفي رواية: سقط السؤال والجواب الثاني.

(ثم قال) عليه السلام: (يا سعد؛ إنِّي لأعطي الرجل) الضعيف الإيمان العطاء أتألَّف به قلبه (وغيرُه أحب إليَّ منه) جملة حالية، وفي رواية: (أعجب إلي منه)، وفيه إشارة إلى إيمان جعيل، وقبول قول سعد فيه؛ (خشية أن يَكُبَّه الله)؛ بفتح المثناة التحتية، وضم الكاف، ونصب الموحدة بـ (أنْ)؛ أي: لأجل خشية كب الله إياه؛ أي: إلقائه منكوسًا (في النار) لكفره؛ إما بارتداده إن لم يُعْطَ أو لكونه ينسب النبي إلى البخل، وأما من قوي إيمانه؛ فهو أحب إلي، فأَكِلُه إلى الإيمان ولا أخشى عليه الكفر.

وفيه دلالة على جواز الحلف على الظن، وجواز الشفاعة إلى الولاة،

<<  <   >  >>