للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

معزوًّا (١) لـ «الأجناس» عن الإمام الأعظم أنَّه قال: (ليس للجن ثواب) انتهى، وذلك؛ لأنَّه جاء في القرآن فيهم {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الصف: ١١] والمغفرة لا تستلزم الإثابة؛ لأنَّه ستر؛ منه: المغفر للبيضة (٢)، والإثابة بالوعد فضل، فثوابهم النَّجاة من النَّار، وإليه ذهب جماعة، وبه قال اللَّيث وأبو الزناد، وقال الإمامان أبو يوسف ومحمَّد بن الحسن: (لهم ثواب كما عليهم عقاب)، وبه قال مالك وابن أبي ليلى.

قال في «الفتاوى السراجية» : (ولا تجوز المناكحة بين بني آدم والجن وإنسان الماء؛ لاختلاف الجنس) انتهى، وتبعه في «منية المفتي»، و «الفيض»؛ لقول الله تعالى: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل: ٧٢] أي: من جنسكم، ونوعكم، وعلى خلقكم، كما قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: ١٢٨] أي: من الآدميين، ولما رواه حرب الكرماني في «مسائله» عن الزهري قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح الجن) وهو مرسل، لكنَّه حجة عند الجمهور لا سيما وقد اعتضد بأقوال العلماء؛ فروي المنع عن الحسن البصري، وقتادة، والحاكم، وابن (٣) قتيبة، وإسحاق بن راهويه، وعقبة [بن] الأصم، وغيرهم، فإذا تقرر المنع من نكاح الأنسي الجنية، فالمنع من نكاح الجني الأنسية أولى.

وسئل مالك عن نكاح الجن، فقال: (ما أرى بذلك بأسًا في الدين، ولكن أكره إذا وجد امرأة حامل، قيل لها: من زوجك؟ قالت: من الجن، فيكثر الفساد في الإسلام) انتهى.

قال الإمام الجليل قاضيخان في «فتاواه» : (امرأة قالت: معي جني يأتيني في النَّوم مرارًا، وأجد منه في نفسي ما أجد لو جامعني زوجي، قال: لا غسل عليها) انتهى، وقيده المحقق الكمال بن الهمام بما إذا لم تُنزل، أمَّا إذا أَنزلت؛ وجب الغسل؛ لأنَّه احتلام.

ويصح الصلاة خلف الجني؛ لأنَّه مكلف بلا خلاف، وتنعقد الجماعة بهم؛ لما رواه أحمد في «مسنده» عن ابن مسعود في قصة الجن وفيه: (لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي؛ أدركه شخصان منهم فقالا: يا رسول الله؛ إنَّا نحب أن تؤمنا في صلاتنا، فقال: فصفهما خلفه، ثم صلى بنا، ثم انصرف).

ورواية الجني مقبولة، وقال السيوطي: لا شك في جواز روايتهم عن الإنس ما سمعوه سواء علم الإنسي بهم أولا، وأمَّا رواية الإنسي عنهم؛ فالظَّاهر منعها؛ لعدم حصول الثِّقة بعدالتهم.

وذبيحة الجني لا تؤكل؛ لأنَّه عليه السَّلام نهى عن أكل ذبائح الجن كما في «الملتقط».

والجمهور على أنَّه لم يكن من الجن نبي، وذهب الضحاك وابن حزم على أنَّه كان منهم نبي، وتمامه في «آكام المرجان».

ولم يعرف العجلوني مذهب إمامه، فلم يتعرض لأحكامهم مع أنَّه لازم؛ تتميمًا للفائدة حتى لا تشتاق النفس إلى ذلك؛ فليحفظ والله أعلم.

(٧٦) [باب الاغتسال إذا أسلم وربط الأسير أيضًا في المسجد]

(باب الاغتسال إذا أسلم)؛ أي: هذا باب في بيان حكم اغتسال الكافر إذا أسلم؛ أي: في المسجد (و) بيان حكم (ربط الأسير) (فعيل) بمعنى (مفعول) قال في «الصِّحاح» : أسره؛ أي: شده بالأساري، وهو القد، ومنه سمي الأسير؛ لأنَّهم كانوا يشدونه بالقد، كما مر، (أيضًا) مصدر (أضَّ) بمعنى: رجع، وقوله: (في المسجد) اللَّام فيه للجنس، والجار والمجرور متعلق بـ (الاغتسال) و (ربط الأسير) على سبيل التنازع، أو حال منهما، أو صفة لهما؛ فافهم، وفي رواية أبي ذر: (ويربط الأسير أيضًا في المسجد) وعليها؛ فالجار والمجرور متعلق بـ (يربط)، ويجوز تنوين (باب) خبرًا لمبتدأ محذوف، وجعل (الاغتسال) مرفوعًا مبتدأ، والخبر محذوف؛ تقديره: مندوب، فيقال: بابٌ -بالتنوين- الاغتسال على الكافر إذا أسلم مندوب، وقوله: (وربط الأسير) بالرفع معطوف على الاغتسال، وقوله: (في المسجد) متعلق أيضًا: بـ (الاغتسال)، وبـ (يربط)، أو حال منهما أو صفة لهما.

قال إمام الشَّارحين: (وهذه التَّرجمة وقعت هكذا في أكثر الروايات، وليس في رواية كريمة والأصيلي قوله: «وربط الأسير أيضًا في المسجد») انتهى، وقال القسطلاني: (إنَّ قوله: «وربط الأسير...» إلى أول السند ساقط عند ابن عساكر، وأبوي ذر والوقت).

وقال إمام الشَّارحين: (ووقع عند البعض لفظ «باب» بلا ترجمة، وهو الصَّواب لأنَّ حديث الباب من جنس حديث الباب الذي قبله، ولكن لما كانت بينهما مغايرة ما؛ فصل بينهما بلفظ «باب» مفردًا، وهو أنَّ النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم همَّ بربط العفريت بنفسه ولكنه لم يربطه؛ لمانع ذكرناه، وههنا ربطه غيره، فلذلك فصل البخاري بينهما بلفظ «باب» مفردًا، وهذا أصوب من النُّسختين المذكورتين؛ لأنَّ في نسخة الجمهور، ذكر الاغتسال إذا أسلم، وليس في حديث الباب ذكر لذلك ولا إشارة إليه، وفي نسخة الأصيلي: «ربط الأسير» غير مذكور، وحديث الباب يصرح بذلك) انتهى.

واعترضه العجلوني بأنَّ ما أوردَه على نسخة الجمهور غير وارد إن لم نجعل (في المسجد) متعلقًا بـ (الاغتسال) أيضًا، وحديث الباب مصرح فيه بالاغتسال، لكنه خارج المسجد، وظاهره وإن كان قبل الإسلام، لكنَّ المراد: بعد الإسلام؛ لما في حديث ابني خزيمة وحبان من التصريح بأنه بعد الإسلام، ويمكن حمل ما هنا على أنَّه أظهر الإسلام بين الصَّحابة وإن كان أسلم قبلُ عند خروج النَّبي عليه السَّلام إليه في المرة الثالثة؛ فتأمَّل) انتهى.

قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار، وقول صادر من غير اعتبار؛ لأنَّ كون (في المسجد) متعلقًا بـ (الاغتسال) و (ربط الأسير) متعين كما أوضحناه قريبًا، وذلك لصحة المعنى، وحديث الباب غير مصرح بالاغتسال في المسجد، بل صرح بالاغتسال خارج المسجد وهو غير مراد، وصريح الحديث أنَّ الاغتسال منه وقع قبل الإسلام، وكونه بعد الإسلام يحتاج لدليل، وما ذكره عن ابن حبان وابن خزيمة، لا ينهض دليلًا؛ لأنَّ فيه (فمرَّ عليه النَّبي عليه السَّلام يومًا فأسلم فحله وبعث به إلى حائط أبي طلحة فأمره أن يغتسل فاغتسل...)؛ الحديث، ويأتي بتمامه قريبًا، وهو يقتضي أنَّ القصة متعددة، ويحتمل أنَّ معنى: (أسلم) انقاد للإسلام؛ لأنَّ في أول الحديث أنَّه عليه السَّلام كان يهدده، ويقول ثمامة: (إن تقتل تقتل)، وفي آخر الحديث قال عليه السَّلام لأصحابه: «لقد حسن إسلام أخيكم»، وهذا يدل على أنَّ إسلامه الحقيقي كان بعد الاغتسال، وعلى كل حال؛ فالاغتسال إنَّما كان خارج المسجد، وإمكان كونه أظهر الإسلام بين الصَّحابة ممنوع؛ لأنَّه لو كان كما ذكر؛ لكانت الصَّحابة أخبرت النَّبي عليه السَّلام بإسلامه ولما قالوا له: (ما تصنع بقتل هذا؟) كما عند ابني خزيمة وحبان، وهو كان يهدده وهم شاهدون، وهذا ظاهر في مرات متعددة، ولم يكن إسلامه قبل خروجه عليه السَّلام، بل إنَّما كان بعد حله وبعثه لأجل الاغتسال، كما هو صريح حديث الباب، وحديث ابني خزيمة وحبان.

والحاصل: أنَّ ما قاله إمام الشَّارحين هو الصَّواب، كما لا يخفى على أولي الألباب، وما زعمه العجلوني باطل صادر من فكر عاطل؛ فافهم، والله أعلم.

وقال ابن المُنَيِّر: (ولم يورد المؤلف قصة ثمامة في باب «الأسير يربط في المسجد» مع أنَّها أليق بحسب الظَّاهر؛ لاحتمال أنَّ المؤلف آثر الاستدلال بقصة


(١) في الأصل: (معزيًّا)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (المغفرة لأبيضة)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٣) في الأصل: (والحاكم بن)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>