للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وإنما قدَّم الشعيرة على البُرَّة؛ لأنَّها أكبر جرمًا منها، وأخَّر الذرة؛ لصغرها، فهو من باب الترقِّي في الحكم وإنْ كان من باب التنزُّل في الصورة.

وقوله: (من خير) المراد به: الثمرات، وكذا في روايةِ: (من إيمان)؛ أي: أنَّ ثمرات الإيمان لا نزاع في أنَّها تزيد وتنقص، والمراد بالثمرات: مراتب العلوم الحاصلة المستلزمة للتصديق لكلِّ واحد من جزئيات الشرع، وأمَّا حقيقة التصديق؛ فشيء واحد لا يقبل الزيادة ولا النقصان.

قال إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل: إن كان المراد من الإيمان: التصديق؛ فلا يقبل الزيادة والنقصان، وإن كان الطاعات؛ فيقبلهما، والأصل هو التصديق والقول بلا إله إلا الله؛ لإجراء الأحكام في الدنيا، والناس إنَّما يتفاضلون في التصديق التفصيلي، لا في مطلق التصديق، وقوله تعالى: {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: ٢٦٠] حكاية عن إبراهيم، وكيف يمكن أن يقال في حقه: زاد تصديقه بالمعاينة؟ لأنَّ القول بهذا يستلزم القول بنقصان تصديقه قبل ذلك؛ وذا لا يجوز في حقه عليه السلام، وإنما مراده من هذا: أن يضم إلى علمه الضروري العلمَ الاستدلالي؛ ليزيد سكونًا؛ لأنَّ تضافر (١) الأدلة أسكن للقلب؛ فليحفظ.

ويستفاد من الحديث: أنَّ صاحب الكبيرة من الموحِّدِين لا يَكفر بفعلها ولا يخلد بالنار، وفيه دخول عصاة الموحِّدين النار وأنَّ مآلهم إلى الجنة، وأنَّه لا يكفي في الإيمان معرفة القلب دون الكلمة ولا الكلمة من غير اعتقاد، والله تعالى أعلم.

اللهم إنِّي أسألك بنبينا محمد عليه السلام وبقدوتنا الإمام الأعظم؛ أن ترزقني علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعملًا متقبَّلًا، وعمرًا طويلًا، وجاهًا عريضًا، وأولادًا كثيرة، ودخول الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على نبيه محمد وآله وصحبه.

(قال أبو عبد الله) يعني: المؤلِّف، وفي رواية: بإسقاطها: (قال أَبَان)؛ بفتح الهمزة وتخفيف الموحدة: ابن يزيد العطار البصري، ووزنه: (فَعَال) كـ (غَزَال)، منصرفٌ، والهمزة فاء الكلمة أصليةٌ، والألف زائدة، وهو المشهور وقول الأكثرين والصحيح، وقيل: إنه غير منصرف؛ لأنَّه على وزن (أَفْعَل) منقول من (أبان يبين)، ولو لم يكن منقولًا؛ لوجب أن يقال فيه: (أَبْيَن) بالتصحيح، وهو قول ابن مالك؛ فافهم.

(حدثنا قتادة) هو ابن دِعامة قال: (حدثنا أنس) هو ابن مالك، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: «من إيمان» مكان «خير») وفي رواية: (من خير)، وهذا من تعليقات المؤلِّف، وقد وصله الحاكم، وإنما ذكره المؤلِّف؛ للتنبيه على تصريح قتادة فيه بالتحديث عن أنس؛ لأنَّ قتادة مدلس لا يحتج بعنعنته إلَّا إذا ثبت سماعه للذي عنعن عنه، وعلى تفسير المتن بقوله: (من إيمان) بدل قوله: (من خير).

[حديث: أن رجلًا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم]

٤٥ - وبه قال: (حدثنا الحسن بن الصَّبَّاح)؛ بتشديد الموحدة: ابن محمد، وللأصيلي: (البزار) بالزاي بعدها راء، الواسطي، المتوفى ببغداد سنة ستين ومئتين: أنه (سمع جعفر بن عون) بن أبي جعفر المخزومي، المتوفى بالكوفة سنة سبع ومئتين قال: (حدثنا أبو العُميْس)؛ بضم العين المهملة، وسكون المثناة التحتية، آخره سين مهملة، الهذلي المسعودي الكوفي، المتوفى سنة خمسين (٢) ومئة (قال: أخبرنا قيس بن مُسلِم)؛ بضم الميم وكسر اللام مخفَّفًا، الكوفي العابد، المتوفى سنة عشرين ومئة، (عن طارق بن شهاب)؛ أي: ابن عبد شمس الصحابي، المتوفى سنة ثلاث وثمانين (٣)، (عن عمر بن الخطاب) رضي الله عنه: (أنَّ رجلًا من اليهود)؛ هو كعب الأحبار قبل أن يُسلم، كما قاله الطبراني، واليهودُ: علم [على] قوم موسى؛ من (هادوا)؛ أي: مالوا، أو من (هاد)؛ إذا رجع؛ لأنَّهم يتهودون؛ أي: يتحركون عند قراءة التوراة وغير ذلك، كما بسطه في «عمدة القاري».

(قال له) أي: لعمر: (يا أمير المؤمنين) فيه دلالة على أن ذلك كان بعد موت الصديق الأكبر؛ (آيةٌ) مبتدأٌ، وساغ مع كونه نكرة؛ لتخصصه بالصفة؛ وهي (في كتابكم) القرآن (تقرؤونها) جملة محلها رفع صفةٍ أخرى، والخبرُ قولُه: (لو علينا معشر اليهود نزلت)؛ أي: لو نزلت علينا؛ لأنَّ (لو) لا تدخل إلا على الفعل، فحذف الفعل؛ لدلالة الفعل المذكور عليه، كذا قاله الشرَّاح، ويمكن أن يجعل الجارُّ والمجرور متعلقًا بالفعل المذكور، وتكون (لو) فقط كأنها داخلة عليه، ويتوفر عليها صفتها من اختصاصها بالفعل، والظاهر الاقتصار عليه، قاله الشيخ إسماعيل العجلوني؛ فتأمل، و (معشر) منصوب على الاختصاص، أو أعني معشر اليهود، والمعشر: الجماعة الذين شأنهم واحد، ويجمع على معاشر؛ (لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا) أصله: (عودًا) من العود، سُمي به؛ لأنَّه في كل عام يعود، والمعنى: نعظِّمه في كل سنة ونُسَرُّ فيه؛ لعظم ما حصل فيه من كمال الشريعة المطهرة، (قال) أي: عمر: (أي آية) هي؟ فالخبر محذوف (قال) أي: كعب: ({اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}) قال البيضاوي: بالنصر والإظهار على الأديان كلها، أو بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد، ({وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}) بالهداية والتوفيق، أو بفتح مكة وهدم منارات الجاهلية، ({وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ})؛ أي: اخترته لكم ({دِيناً} [المائدة: ٣]) من بين الأديان؛ وهو الدين عند الله تعالى.

(قال) وفي رواية: (فقال) (عمر) رضي الله عنه: (قد عرفنا ذلك اليوم والمكان) وكان ذلك في حجة الوداع، وعاش بعدها عليه السلام ثلاثة أشهر، كذا قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني رضي الله عنه (الذي نزلت) وفي رواية: (أنزلت) (فيه على النبي) الأعظم، وفي رواية: (على رسول الله) (صلى الله عليه وسلم، وهو قائم)؛ أي: والحال أنَّه قائم (بعرفةَ) الباء: ظرفية، غير منصرف؛ للعلميَّة والتأنيث، والباء متعلقة بـ (قائم) أو بـ (نزلت) (يومَ جمعةٍ) وفي رواية: (يومَ الجمعة)، وإنَّما لم تمنع من الصرف؛ لأنَّها صفة أو غير صفة وليست علمًا، ولو كانت علمًا؛ لامتنع صرفها؛ وهي بفتح الميم، وضمها، وإسكانها، فالساكن بمعنى المفعول، والمتحرك بمعنى الفاعل، وهذه قاعدة كلية، والمعنى: إما جامع للناس أو مجموع له، وإنما لم يقل عمر: جعلناه عيدًا؛ ليطابق جوابه السؤال؛ لأنَّه جاء في «الصحيح» : أن النزول كان بعد العصر، ولا يتحقق العيد إلَّا من أول النهار، ولهذا قال الفقهاء: إن رؤية الهلال بالنهار لليلة المستقبَلة، ولا شك أن اليوم التالي ليوم عرفة عيد للمسلمين، فكأنه قال: جعلناه عيدًا بعد إدراكنا استحقاق ذلك اليوم للتعبد فيه.

ويظهر من هذه الرواية ورواية إسحاق ولفظه: (يوم جمعة يوم عرفة)، وللطبراني: (وهما لنا عيد) : أنَّ الجواب تضمَّن أنَّهم اتخذوا ذلك اليوم عيدًا؛ وهو يوم الجمعة، واتخذوا يوم عرفة عيدًا؛ لأنَّه ليلة العيد، كذا قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني رحمه [الله] تعالى.

(٣٤) [باب الزكاة من الإسلام]

هذا (بابٌ) بالتنوين: (الزكاة من الإسلام)؛ أي: من شعبه؛ مبتدأ وخبر، ويجوز بالإضافة إلى الجملة بعده، (وقولُِه) بالرفع والجر، وللأصيلي: (عز وجل) ولابن عساكر: (سبحانه) : ({وَمَا أُمِرُوا})؛ أي: وما أُمِر أهل الكتاب في التوراة والإنجيل ({إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ})؛ أي: ليوحِّدوه، والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فيدخل فيه جميع الناس ({مُخْلِصِينَ}) حال من ضمير (يعبدوا) ({لَهُ الدِّينَ}) منصوب به، والإخلاص: ما صفا عن الكدر وخلص من الشوائب، والرياء: آفة عظيمة تقلب الطاعة معصية، فالإخلاص رأس جميع العبادات، ({حُنَفَاءَ}) حال ثانية؛ جمع حنيف؛ وهو المائل عن الضلال إلى الهدى، ({وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ}) عطف خاص على عام؛ أي: يؤدوها على وجهها ({وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ})؛ أي: يعطوها إلى مصارفها، ولكنهم خالفوا حكمه، فقال بعضهم: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ} [التوبة: ٣٠]، وقال بعضهم: عيسى ابن الله، وقال بعضهم: عيسى هو الله، وقال بعضهم: {ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: ٧٣]، وعامَّة اليهود مشبِّهة، انتهى؛ فليحفظ، ({وَذَلِكَ})؛ المذكور من هذه الأشياء هو ({دِينُ القَيِّمَةِ} [البينة: ٥])؛ أي: دين الملة القيمة؛ أي: المستقيمة التي لا اعوجاج فيها.

[حديث: خمس صلوات في اليوم والليلة]

٤٦ - وبه قال: (حدثنا إسماعيل) بن أبي أويس الأصبحي المدني، ابن أخت مالك الإمام، المتوفى سنة ست وعشرين ومئتين (قال: حدثني) بالإفراد، وللأصيلي: (حدثنا) (مالك بن أنس) الإمام، وسقط في روايةٍ قوله: (بن أنس)، (عن عمه أبي سُهيل)؛ بضم السين نافع (بن مالك) بن أبي عامر المدني، (عن أبيه) مالك بن أبي عامر، المتوفى سنة اثنتي عشرة ومئة: (أنه سمع طلحة بن عبيد الله) بن عثمان القرشي التيمي، أحد العشرة المبشرة بالجنة، المقتول يوم الجمل لعشرٍ خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، ودفن بالبصرة بعد أن استُخرج طريًّا كما مات من قنطرة القرة بأمر ابنته بعد ثلاثين سنة؛ بسبب رؤيتها له في المنام، وأنه يشكو إليها النداوة رضي الله عنه (يقول: جاء رجل) هو ضِمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نَجْد)؛ بفتح النون وسكون الجيم، قال الجوهري: نجد من بلاد العرب، وكل ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق؛ فهو نجد، وهو مذكَّر، كذا في «عمدة القاري» وتمامه فيه، وفي رواية: (جاء رجل من أهل نجد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) (ثائر) بالمثلثة؛ أي: منتفش ومنتشر شعر (الرأس) من عدم الرفاهية، أطلق اسم الرأس على الشعر؛ لأنَّ الشعر منه ينبت، كما يطلق اسم السماء على المطر؛ لأنَّه من السماء ينزل، أو لأنَّه جعل نفس الأمر ذا ثوران على طريق المبالغة، وفي (ثائر) يجوز الرفع والنصب، أما الرفع؛ فعلى أنه صفة لـ (رجل)، والنصب على أنه حال، ولا يضر إضافته؛ لأنَّها لفظية؛ فليحفظ.

(نسمع) بنون الجمع (دَوِيَّ صوتِه)؛ بفتح الدال، وكسر الواو، وتشديد الياء، منصوبٌ مفعولًا به (ولا نفقه)؛ أي: لا نفهم، بنون الجمع كذلك (ما يقول)؛ أي: الذي يقوله، في محل نصب على المفعولية، وفي رواية: (يُسمَع ولا يُفقَه)؛ بضم المثناة التحتية فيهما؛ مبنيًّا لما لم يُسَمَّ فاعله، و (دوي) و (ما يقول) نائبان


(١) في الأصل: (تظاهر)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (عشرين)، وليس بصحيح، والمثبت من المصادر.
(٣) في الأصل: (ثلاث وعشرين ومئة)، وليس بصحيح، والمثبت من المصادر.

<<  <   >  >>