للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

إن العاصي بن وائل كان نذر في الجاهلية أن ينحر مئة بدنة، وإن هشام بن العاصي نحر حصته خمسين، أفيجزئ عنه؟ فقال عليه السلام: «إن أباك لو كان أقر بالتوحيد فصُمْتَ عنه، أو تصدَّقْتَ عنه، أو أعتقْتَ عنه؛ بَلَغَهُ ذلك»، وروى الدارقطني: قال رجل: يا رسول الله؛ كيف أبر أَبَوَيَّ بعد موتهما؟ فقال: «إن من البر بعد البر أن تصلِّي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك، وأن تصدق عنهما مع صدقتك»، وفي كتاب القاضي الإمام أبي الحسين ابن الفراء عن أنس رضي الله عنه: أنه سأل رسول الله عليه السلام، فقال: يا رسول الله؛ إنا نتصدق عن موتانا، ونحج عنهم، وندعو لهم، فهل يصل ذلك إليهم؟ قال: «نعم»، وعن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين: (أن الحسن والحسين رضي الله عنهما كانا يعتقان عن علي رضي الله عنه)، وفي «الصحيح» : قال رجل: يا رسول الله؛ إن أمي توفيت أينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: «نعم».

فإن قلت: قال الله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: ٣٩]، وهو يدل على عدم وصول ثواب القرآن للميت؟

قلت: اختلف العلماء في هذه الآية على ثمانية أقوال:

أحدها: أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَأتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} [الطور: ٢١] أدخل الآباء الجنة بصلاح الأبناء، قاله ابن عباس رضي الله عنهما.

الثاني: أنها خاصة بقوم إبراهيم وموسى عليهما السلام، وأمَّا هذه الأمة؛ فلهم ما سعوا أو ما سعى لهم غيرهم، قاله عكرمة.

الثالث: المراد بـ (الإنسان) : الكافر، قاله الربيع بن أنس.

الرابع: ليس للإنسان إلا ما سعى بطريق العدل، فأمَّا من باب الفضل؛ فجائز أن يزيده الله تعالى ما يشاء، قاله الحسين بن فضل.

الخامس: أن معنى {مَا سَعَى} : ما نوى، قاله أبو بكر الوراق.

السادس: ليس للكافر من الخير إلا ما عمله في الدنيا، فيثاب عليه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة شيء، ذكره الثعلبي.

السابع: أن اللام في {للإنسان} بمعنى (على)؛ تقديره: ليس على الإنسان إلا ما سعى.

الثامن: أنه ليس له إلا سعيه غير أن الأسباب مختلفة، فتارة يكون سعيه في تحصيل الشيء بنفسه، وتارة يكون سعيه في تحصيله سببه مثل سعيه في تحصيل قرابة (١) وولد يترحم عليه، وصديق يستغفر له، وتارة يسعى في خدمة الدين والعبادة فيكتسب محبة (٢) أهل الدين فيكون ذلك سببًا حصل بسيعه، حكاه أبو الفرج عن شيخه ابن الزعفراني، انتهى كلام صاحب «عمدة القاري» رحمه الله ورضي عنه، وسيأتي مزيد لذلك في (الجنائز) إن شاء الله تعالى.

اللهم فرج عنا وعن المسلمين، وارفع البلاء عنا وعنهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

(٥٦) [باب: مَا جَاءَ فِي غَسْلِ الْبَوْلِ.]

هذا (باب ما جاء)؛ أي: ورد في الحديث (في) حكم (غسل البول)؛ أي: بول الإنسان، وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب السابق البول الذي كان سببًا لعذاب صاحبه في قبره، وهذا الباب في بيان غسل ذلك البول، فالألف واللام فيه للعهد الخارجي، وأشار به المؤلف إلى أن المراد من البول: هو بول الناس؛ لأجل إضافة البول إليه في الحديث السابق لا جميع الأبوال على ما يأتي في التعليق الدَّال على ذلك، فلأجل هذا قال ابن بطال: (لا حجة فيه لمن حمله على جميع الأبوال ليحتج به في نجاسة بول سائر الحيوانات)، وفي كلامه ردٌّ على الخطابي حيث قال: فيه: دليل على نجاسة الأبوال كلها، وليس كذلك، بل الأبوال غير بول الناس على نوعين؛ أحدهما: نجسة مثل بول الناس يلتحق به لعدم الفارق، والآخر: طاهرة عند من يقول بطهارتها، ولهم أدلة أخرى في ذلك، كذا قرَّره في «عمدة القاري».

(وقال النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) هذا تعليق من المؤلف، وقد وصله في الباب السابق واللاحق (لصاحب القبر)؛ أي: عنده، فاللام هنا بمعنى: عند، كما في قولهم: كتبته لخمس خَلَون، أو بمعنى: لأجل، أو بمعنى: عن؛ أي: عن صاحب القبر؛ كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: ١١]، والصواب: الأول أو الثاني، والمعنى الثالث ضعيف؛ لأنَّ اللام في الآية -كما قاله النحاة- لام التعليل؛ فافهم، والله تعالى أعلم: (كان لا يستتر)؛ بمثناتين، ولابن عساكر: (لا يستبرئ)؛ بموحدة بعد الفوقية: لا يطلب البراءة من البول، كما قدمناه، (من بوله)؛ أي: بول نفسه، (ولم يذكر سوى بول الناس)، هذا من كلام المؤلف نبَّه به على أن معنى روايته: (لا يستتر من البول) هو بول الناس لا سائر الأبوال، فلا تعلق له في حديث هذا الباب لمن احتج به في نجاسة بول غير الإنسان، ولمن قال بطهارة ذلك، فالمطلق الآتي محمول على المقيَّد، لكن للقائلين بنجاسة سائر الأبوال أدلَّة أخرى، كما للقائلين بطهارة بول غير الإنسان من الحيوانات المأكولات.

[حديث: كان النبي إذا تبرز لحاجته أتيته بماء فيغسل به]

٢١٧ - وبه قال: (حدثنا يعقوب بن إبراهيم)؛ أي: الدورقي (قال: حدثنا)، وفي رواية: (أخبرنا) (إسماعيل بن إبراهيم) : هو ابن علية وليس هو أخا يعقوب المذكور، نبَّه عليه في «عمدة القاري» (قال: حدثني) بالإفراد (روح بن القاسم) التيمي العنبري البصري، المكنى بأبي القاسم، أو بأبي غياث -بالمعجمة، والمثلثة-، ورَوْح؛ بفتح الرَّاء، وسكون الواو، وبالحاء المهملة: هو المشهور، ونقل ابن التين أنَّه قرئ بضم الرَّاء، وليس بصحيح، وقيل: هو بالفتح لا نعلم فيه خلافًا، كذا في «عمدة القاري»؛ فافهم. (قال: حدثني) بالإفراد (عطاء بن أبي ميمونة)؛ بالتاء آخره، البصري أبو معاذ مولى أنس بن مالك رضي الله عنه، (عن أنس بن مالك) رضي الله عنه (قال: كان النبي) الأعظم وفي [رواية] : (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم إذا تبرَّز)؛ بتشديد الرَّاء، وبالزاي آخره؛ أي: خرج إلى البَراز -بفتح الموحدة- للحاجة، والبَراز: اسم للفضاء الواسع، فكنوا به عن قضاء الحاجة، كما كنوا عنه بالخلاء؛ لأنَّهم كانوا يتبرَّزون في الأمكنة الخالية من الناس، قال الخطابي: (المحدِّثون يَرْوُونه بالكسر، وهو خطأ؛ لأنَّه مصدر -بالكسر- من المبارزة في الحرب)، وقال الجوهري بخلافه، وهذا لفظه: (البراز: المبارزة في الحرب، والبراز: أيضًا كناية عن ثقل العذرة، وهو الغائط)، ثم قال: (والبَراز؛ بالفتح: الفضاء الواسع)، كذا في «عمدة القاري»، (لحاجته)؛ أي: لأجلها، ويجوز أن تكون اللام بمعنى: عند؛ يعني: عند قضاء حاجته؛ (أتيته بماء)؛ أي: لأجل الاستنجاء، (فيَغسِل به)؛ بكسر السين المهملة، وفتح التحتية، وفي رواية: (فيَغتَسل)؛ بفتح التحتية والفوقية، بينهما غين معجمة، وفي أخرى: (فتَغسَّل)؛ بفتح الفوقية بعد الفاء، وتشديد السين المفتوحة، والمراد من الكل: أنه يغسل ذَكَرَهُ الشريف بالماء من حاجة البول، وحذف المفعول لظهوره، أو للاستحياء عن ذكره، كما قالت عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت منه، ولا رأى مني)؛ يعني: العورة، كذا قاله الشراح، ولو قدِّر عامًّا؛ أي: فرجه ليشمل القبل والدبر؛ لكان أولى، ولعلَّ الحامل لهم على تقدير الخاص كونه كذلك في الواقع، لكن هذا بعيد في كل مرة؛ فتأمل.

وفي الحديث: استحباب التباعد عن الناس لقضاء الحاجة، والاستتار عن أعين الناس، وجواز استخدام الصغار، وجواز الاستنجاء بالماء واستحبابه، ورجحانه على الاقتصار على الحجر، واختلف فيه، والذي عليه الجمهور من السلف: أن الأفضل الجمع بين الماء والحجر، فإن اقتصر على أحدهما؛ جاز، لكن الماء أفضل؛ لأصالته في التنقية، وقيل: الحجر أفضل، وقال المالكية: لا يجوز الحجر إلا لمن عدم الماء.

ويستنبط منه حكم آخر، وهو استحباب خدمة الصالحين وأهل الفضل، والتبرك بذلك، أفاده في «عمدة القاري»، والله أعلم.

وقد استدلَّ المؤلف بهذا الحديث هنا على غسل البول، وهو أعم من الاستدلال به على الاستنجاء وغيره فلا تكرار فيه، وقد ثبتت الرُّخصة في حق المستجمر، فيستدلُّ به على وجوب غسل ما انتشر على المحلِّ من النجاسة؛ فافهم.

اللَّهُمَّ إنِّي أسألك بمحمَّد وآله وأصحابه صلَّى الله عليه وعليهم وسلَّم أنْ تفرِّج عنَّا وعن المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، آمين، آمين، آمين.


(١) في الأصل: (قواته)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (بحبه)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>