للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

ذكر المعاطن في الأحاديث، مع أنها مصانة عن عدم الفائدة.

وقال إمام الشَّارحين: (وجواب آخر عن الأحاديث المذكورة؛ وهو أنَّ النهي فيها للتنزيه، كما أن الأمر في مرابض الغنم للإباحة، وليس للوجوب اتفاقًا، ولا للندب) انتهى.

واعترضه العجلوني فزعم أنَّ الجواب أخذه من قول ابن حجر: (جمع بعض الأئمة بين عموم قوله: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، وبين الأحاديث بحملها على كراهة التنزيه) انتهى.

قلت: تحرك عرق العصبية، فانظر أنَّ ابن حجر نفسه قد أخذ كلامه من كلام بعض الأئمة الناقل عنه، وإمام الشَّارحين قد أخذه أيضًا من كلام هذا البعض، فكيف يقال: إنَّه أخذه من قول ابن حجر؟ فإن ابن حجر ليس هذا الجواب له، بل هو ناقله عن بعض الأئمة كما علمت، فانظر هذا التعصب البارد الذي يمجه من ليس له ذهن شارد.

ومذهب إمامنا الأعظم: أنَّ الصلاة في معاطن الإبل مكروهة، قال صاحب «النهر» : (ومن المكروهات: الصلاة في مظان النجاسة؛ كمعاطن الإبل، والمجزرة، والمغتسل، والحمام)، وجزم في «زاد الفقير» لابن الهمام: بأنَّه إذا غسل موضعًا من الحمام، وصلى فيه؛ فلا بأس به، وكذا لو صلى في موضع نزع الثياب) انتهى.

وصرَّح به الإمام الجليل قاضيخان، والمراد بمعاطنها: مباركها مطلقًا، فإذا لم تكن الإبل في معاطنها؛ فلا تكره الصلاة فيها، كما صرَّح به ابن الملك في «شرحه على الوقاية».

وروى ابن القاسم عن مالك: (أنه لا بأس بالصلاة في معاطن الإبل)، وروى أصبغ عن مالك: (أنه يعيد في الوقت).

وعند الشافعي: (الصلاة في معاطن الإبل والبقر مكروهة؛ لشيئين: خشية النِّفار، وللنجاسة).

وزعم العجلوني أنَّ إمام الشَّارحين لم يفصح عن مذهبه مع أنَّ الحكم مصرَّح به عندهم، انتهى.

قلت: قد أفصح عنه، كما علمت عبارته في ما سبق، غير أنَّه صرَّح بجواز الصلاة، ولم يصرِّح بالكراهة نصًّا، وصرحَّ بها ضمنًا في آخر كلامه، كما علمت عبارته، على أنَّ الحكم في كتب مذهبنا مشهور عند أقلِّ صغير طالب، والكتب طافحة به، فلعلم ذلك اقتصر على ما ذكره، وإنما الجاهل يظنُّ أنه لم يذكر الحكم؛ لعدم معرفته؛ فافهم.

قال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: في حديث البراء عند أبي داود: وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم، فقال: «صلوا؛ فإنَّها بركة»، وعند الطبراني في حديث عبد الله بن مغفل: «فإنَّها بركة من الرحمن»، وفي رواية أحمد «فإنَّها أقرب من الرحمة»، وعند البزار في حديث أبي هريرة: «فإنَّها من دواب الجنة»، فكل هذا يدلُّ على استحباب الصلاة في مرابض الغنم؛ لما فيها من البركة وقُرب الرحمة.

قلت: هذه الأحاديث ذكرت للترغيب في الغنم؛ لإبعادها عن حكم الإبل؛ إذ وَصفُ أصحاب الإبل الغِلظ والقسوة، ووصف أصحاب الغنم السكينة، ولا تعلُّق لاستحباب الصلاة في مرابض الغنم في ذلك) انتهى.

قلت: وإنما وصفها عليه السَّلام بالبركة، وقُرب الرحمة؛ لِمَا أنها تلد في الحول ولدًا واحدًا، ومع هذا؛ فهي كثيرة جدًّا، ولأنَّها لا تنام في آخر الليل، بخلاف غيرها؛ كالكلاب؛ فإنَّها تلد في الحول أولادًا خمسة أو أكثر، ومع هذا؛ فهي قليلة، ولأنَّها تنام آخر الليل، وهو مخصوص بنزول الرحمات، والتجليات، والفيوضات.

قال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: مرابد البقر هل ملحقة بمرابد الغنم، أو بمرابد الإبل؟

قلت: ذكر أبو بكر بن المنذر أنَّها ملحقة بمرابد الغنم، فلا تكره الصلاة فيها) انتهى.

قلت: وهو مذهب الإمام الأعظم، وبه قال مالك، وعطاء، والشافعي على ما نقله ابن حجر، يدلُّ عليه حديث عبد الله بن مغفل في «مسند عبد الله بن وهب» : (نهى النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، أن يُصلَّى في معاطن الإبل، وأمر أن يُصلَّى في مراح الغنم والبقر)، ويدلُّ عليه حديث: «أينما أدركتك الصلاة؛ فَصلِّ» فهو بعمومه يتناوله.

فإن قلت: في حديث ابن عمر في «مسند أحمد» : (أنه عليه السَّلام كان يصلي في مرابد الغنم، ولا يصلي في مرابد الإبل والبقر)، فألحقها بالإبل.

قلت: وأجاب إمام الشَّارحين بأن في إسناده عبد الله بن لهيعة، والكلام فيه مشهور، انتهى.

قلت: يعني أن سنده ضعيف لا يحتج به، وهو لا يقاوم الصحيح الذي ذكرناه، والله أعلم.

(٥١) [باب من صلى وقدامه تنور أو نار أو شيء مما يعبد فأراد به الله]

هذا (باب) حكم (من صلى) الفرض وغيره (وقدامَه)؛ بالنصب على الظرفية: خبر مقدم؛ أي: بين يديه (تَنُّورٌ)؛ بالرفع مبتدأ مؤخر، والجملة اسمية وقعت حالًا، وهو بفتح المثناة الفوقية، وضم النون المشددة، وهو مشهور، تارة يحفر من الأرض حفيرة، وتارة يتخذ من الطين، ويدفن في الأرض، ويوقد فيه النار إلى أن يحمى فيخبز فيه، وتارة يطبخ فيه، فقيل: هو عربي، وقيل: مُعرَّب توافقت عليه العرب والعجم، كذا قاله إمام الشَّارحين، وتبعه الشراح، غير الكرماني؛ فإنَّه خص التنور بالحفيرة، وهو وهم؛ لأنَّ أكثر ما يكون يتخذ من الطين، ويدفن بعضه في الأرض، ويوقد فيه النار للخبز.

(أو نار) عطف على ما قبله، وإنما ذكر النار بعد ذكر التنور مع أن ذكر النار يغني عن ذكر التنور؛ اهتمامًا به؛ لأنَّ عبدة النار من المجوس لا يعبدون إلا النار المكومة المتوقدة بالجمر الظاهرة؛ كالتي في التنور، وربما لا تظهر النار من التنور؛ لعمقه ولقلة النار، (أو شيء مما يعبد) هذا من عطف العام على الخاص، تقديره: أو صلى وقدَّامه شيء مما يُعبد؛ كالأوثان، والأصنام، والتماثيل، والصور، ونحو ذلك بما يعبده أهل الضلال والكفر، وتمثيل العجلوني ذلك بالشمس فيه نظر؛ لأنَّها وإن كان يعبدها قوم، إلا أنها لا تكون بين يدي المصلي، ولا يمكن ذلك، ولم يصرِّح أحد من المجتهدين بكراهة

<<  <   >  >>