للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

إذ الطيب من أسباب الجماع ودواعيه، والجماع مفسد للحج فيمتنع فيه الطيب؛ لسد الذريعة) انتهى.

قلت: وأفاد كلامه أنَّ التطيُّب قبل الإحرام وبقاء أثره بعده خصوصية للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو ممنوع؛ لأنَّ الأصل عدمها وهي لا بد لها من دليل، ولم يوجد ما يدل عليها، ولا يلزم من كون الطيب من أسباب الجماع أن يوجد الجماع ودواعيه، فكم من متبع للسنة متطيب في إحرامه، ولا ينظر إلى زوجته فقد يملك الشخص إربه، وما هذا إلا محاولة، وخروج عن الظاهر، أما رأيت قول عائشة في إنكارها على ابن عمر رضي الله عنهما، وردها عليه، والعجب من العجلوني كيف نقل كلامه، ولم يتعرَّض له مع تعصبه لما ذهب إليه إمامه؛ فافهم، والله تعالى أعلم.

(١٥) [باب تخليل الشعر حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه]

هذا (باب) حكم (تخلل الشَّعَر)؛ بفتح العين أفصح من سكونها؛ أي: في الاغتسال من الجنابة بالماء قبل إفاضته؛ ليكون أبعد عن الإسراف في الماء، وفي نسخ: (تخليل)، وكلاهما مصدر، فالأول من (التفعُّل)، والثاني من (التفعيل)، (حتى إذا ظَنَّ)؛ أي: تيقن أو غلب على ظن المغتسل (أنَّه أروى) فعل ماض من الإرواء، يقال: أروى إذا جعله ريانًا (بشرته)؛ أي: ظاهر جلده، والمراد به: ما تحت الشعر، وفي «المصابيح» : هو من الري خلاف العطش، استُعير لشدة بلِّ الشعر بالماء، وضمير (بشرته) عائد على (الشعر)، أو على المغتسل.

قلت: والظاهر الثاني؛ فليحفظ.

وقوله: (أفاض) جواب (إذا) من الإفاضة؛ وهي الإسالة (عليها)؛ أي: على بشرته، وفي بعض النسخ: (عليه)؛ أي: على الشعر، واقتصر ابن عساكر على (أفاض) ولم يزد (عليها) ولا (عليه)، ووجه المناسبة بين البابين: من حيث وجود التخليل فيهما، أمَّا في الأول؛ فلأنَّ المتطيب يخلل شعره بالطيب، وأمَّا في هذا؛ فإنَّ المغتسل يخلله بالماء، كذا في «عمدة القاري».

[حديث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه وتوضأ]

٢٧٢ - وبالسَّند إليه قال: (حدثنا عبدان) : هو عبد الله العتكي (قال: أخبرنا عبد الله) : هو ابن المبارك (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (هشام بن عروة) : هو الزبير، (عن أبيه) : هو عروة بن الزبير بن العوام، (عن عائشة) : الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (قالت: كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) إفادة لفظة (كان) الاستمرار والدوام (إذا اغتسل)؛ أي: إذا أراد الاغتسال (من الجنابة)، وقوله: (غسل يديه)؛ بالتثنية، إلى الرسغين جواب (إذا) (وتوضأ وضوءه للصلاة)؛ أي: مثل وضوءها بجميع سننه وآدابه، وإفادة الواو الدالة على الجمع المطلق أنَّه غسل يديه، وتوضأ، يحتمل تقديم أحدهما على الآخر وتأخيره، لكن غسل اليدين إنَّما كان بعد الاستنجاء، ثم إنَّه توضأ وغسل يديه؛ لقولها: (وضوءه للصلاة)؛ فافهم.

(ثم اغتسل)؛ أي: اشتغل وشرع في أفعال الاغتسال من الجنابة، (ثم يخلل)؛ بضمِّ التحتية (بيده)؛ أي: اليمنى (شَعَره)؛ بالتحريك؛ أي: كله أو شعر رأسه بأن يأخذ غرفة من الماء، ويخلل؛ ليكون أبعد عن الإسراف، وليصل الماء إلى أصول الشعر (حتى إذا ظن) يجوز أن يكون على بابه، فيكتفى بالغلبة، ويجوز أن يكون بمعنى: تيقن، واستظهر العجلوني الأول.

قلت: لا أولوية لأحدهما؛ لأنَّ المعنى صحيح في كلٍّ منهما، وقد يقال: الثاني أظهر؛ لأنَّ مرتبة اليقين أقوى وأبعد عن الوهم من مرتبة الظن أو غلبته؛ فافهم.

(أنَّه)؛ بالضمير، وللحمُّوي والمستملي بحذف الضمير، فـ (أن)؛ بالفتح والتخفيف وأصلها بالتثقيل فتكون (أن) مخففة من الثقيلة، واسمها المحذوف ضمير الشأن، وبه يعلم جواز جعل ضمير (أنَّه) للشأن، وجملة (قد أروى بشرته) خبرها، و (أن) وما بعدها سدت مسد مفعول (ظن)، والضمائر من (ظن) وما بعدها راجعة إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ويجوز في بعضها رجوعه إلى (الشَّعَر).

قلت: بل جميعها راجع إليه عليه السلام، ولا يجوز غيره، كما لا يخفى؛ فافهم.

وجملة (أفاض) من الإفاضة؛ وهي الإسالة؛ أي: أسال (عليه) أي: على شعره، والمراد: على رأسه (الماء) جواب (إذا)، واختلفوا في الشعر، فقال بعضهم: هو على عمومه، وخصص الآخرون بشعر الرأس، كما في «عمدة القاري» (ثلاث مرات)؛ بالنصب على المصدرية؛ لأنَّه عدد المصدر، وعدد المصدر مصدر، كما لا يخفى، (ثم غسل سائر جسده)؛ أي: بقية جسده بالماء، وتقدم في رواية مالك عن هشام في أول كتاب (الغُسل) : (على جلده كله)، فإذا حملنا لفظة (سائر) على معنى الجميع؛ يجمع بين الروايتين، كذا قاله في «عمدة القاري»، ولا يخفى أنَّ مطابقة الحديث للترجمة في قوله: (ثم يخلل... إلى آخره)، ففي الحديث: دليل على وجوب إيصال الماء إلى أثناء اللحية، كما يجب إيصاله إلى أصولها في الغُسل، وعلى وجوب غسل شعر الرأس ولو كان ملبدًا، وعلى وجوب غسل داخل المضفور، فإنَّ التخليل يشمل ذلك كله.

وقال ابن بطال: (أمَّا تخليل شعر الرأس في غسل الجنابة؛ فمجمع عليه)، وقاسوا عليه شعر اللحية، فروى ابن القاسم: أنَّه لا يجب تخليلها مطلقًا، وروى أشهب: أنَّ تخليلها في الغسل واجب؛ لهذا الحديث ولا يجب في الوضوء؛ لحديث عبد الله بن زيد في (الوضوء)، ولم يذكر فيه تخليل اللحية، وبه قال الإمام الأعظم، وأحمد ابن حنبل.

قلت: مذهب الإمام الأعظم، والإمام محمَّد أنَّ التخليل في الوضوء سنة، وقال الإمام أبو يوسف: إنَّه سنة مؤكدة، وهو المختار، وكذا مشى عليه أصحاب المتون، وهذا ما لم تكن كثة، فإن كانت خفيفة؛ فيجب إيصال الماء إلى ما تحتها؛ كالغسل، كذا في «منهل الطلاب».

وقال الشافعي: (التخليل مسنون، وإيصال الماء إلى البشرة مفروض في الجنابة).

وقال المزني: (تخليلها واجب في الوضوء والغسل جميعًا) انتهى.

وزعم العجلوني أنَّ حجة من لم ير تخليلها في الجنابة أنَّا قد اتفقنا على أنَّ داخل العين لا يجب غسله؛ لأنَّ عليه ساترًا، فكذا هنا.

قلت: وهذا قياس فاسد؛ لأنَّ داخل العين إنَّما سقط غسله للحرج؛ حيث إنَّ العين شحم، فيتضرر بالماء، وقد عمي من تكلف لغسله، لا لأنَّ عليه ساترًا، ألا ترى أنَّ داخل الفم، والأنف، ووراء الأذن، وداخل القُلفة مستور ويجب غسله، فهذا القياس غير صحيح، وقال أيضًا: الأمرد الذي لا لحية له يجب عليه غسل ذقنه في الوضوء والجنابة، ثم يسقط غسله في الوضوء إذا غطاه الشعر، فكذا ينبغي أن يسقط في الجنابة.

قلت: وهذا أيضًا قياس مع الفارق، فإنَّ الأمرد ما دام كذلك؛ حكمه حكم المرأة، وهي يجب غسل بشرتها، فكذا هذا، أمَّا إذا نبتت له لحية؛ يصير حكمه حكم الرجال، فيجب إيصال الماء إلى أثنيائها وأصولها في الغسل؛ لأنَّ الجنابة تحل أعضاء البدن كله، ألا ترى قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «خللوا الشعر؛ فإنَّ تحت كل شعرة جنابة»، وأمَّا في الوضوء؛ فالحدث يحل الظاهر دون الباطن، بخلاف الحدث الأكبر؛ فإنَّه يحل الباطن والظاهر؛ فافهم، والله أعلم.

(وقالت)؛ بالواو عطف على (قالت: كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)، والضمير فيهما يرجع إلى عائشة، فيكون متصلًا بالإسناد المذكور: (كنت اغتسل أنا والنبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) (أنا) تأكيد لاسم (كان)؛ لأجل صحة العطف على الضمير المرفوع المستتر، ويجوز فيه النصب على أنَّه مفعول معه؛ أي: مع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، واختلفوا فيه؛ فالجمهور: على أنَّه من باب عطف المفردات، وبعضهم: على أنَّه من باب عطف الجمل؛ والتقدير: كنت أغتسل أنا ويغتسل النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (من إناء واحد نَغْرف)؛ بالنون المفتوحة، والغين المعجمة الساكنة، يليها راء (منه)؛ أي: من الماء الذي في الإناء (جميعًا)؛ بالنصب على الحال من فاعل (نغرف) أو من فاعل (أغتسل)، وما عطف عليه مستأنفة، أو صفة، أو حال، وعند المؤلف في (الاعتصام)

<<  <   >  >>