الرواة ما حفظه.
(وفكاكُ)؛ بالرفع عطف على (العقل)، وهو بفتح الفاء وكسرها؛ هو ما يفتك ويخلص به (الأسير) : فعيل بمعنى المأسور من أسره؛ إذا شده بالأسارى؛ وهو القِد؛ بكسر القاف وبالمهملة، ويقال: القيد، والمراد حكمه والتَّرغيب في تخليصه، وأنَّه من أنواع البر فينبغي الاهتمام به.
(ولا يقتلُ)؛ بضم اللام (مسلم بكافر) : وفي رواية: (وأن لا يقتل)؛ بزيادة (أن) الناصبة، وهي مصدرية في محل رفع على الابتداء، والخبر محذوف؛ تقديره: وفيها أن لا يقتل؛ أي: وفيها عدم قتل مسلم بكافر؛ يعني: حرمة قصاص المسلم بالكافر، وعلى الرواية الأولى بحذف (أن)، فإنَّه جملة فعلية معطوفة على جملة اسمية؛ أعني: قوله: (العقل)؛ لأنَّ تقديره: وفيها العقل؛ والتقدير: وفيها العقل وفيها حرمة قصاص المسلم بالكافر، فهو عطف جملة على جملة.
استدل بظاهر الحديث مالك، والشافعي، وأحمد على أن المسلم لا يقتل بالكافر قصاصًا، وبه قال الأوزاعي، والليث، والثوري، وقال إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل والإمام أبو يوسف في رواية، والإمام محمد، والإمام زفر، والإمام الحسن بن زياد: يقتل المسلم بالكافر، وبه قال النخعي، والشعبي، وسعيد بن المسيب، وابن أبي ليلى، وعثمان البتِّي، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعمر بن عبد العزيز.
وقالوا: ولا يقتل بالمستأمن والمعاهد لهم عمومات قول الله عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: ٤٥]، وقوله جل ذكره: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ} [البقرة: ١٧٨]، وقوله سبحانه وتعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: ٣٣]، فإنَّ هذه الآيات تدل صريحًا على أن المسلم يقتل بالكافر؛ لأنَّ ذلك عام في شريعة من قبلنا وفي شريعتنا؛ لأنَّ الله تعالى قد قصه علينا وقرره النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم من غير إنكار ولا تخصيص، فلزمنا العمل به.
والمراد بالسلطان: القصاص في العمد، والدية في الخطأ، واتفق الإمام الأعظم، وأصحابه، والثوري، وابن أبي ليلى على أن الحر يقتل بالعبد، كما يقتل العبد به، وهو قول داود، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن مسعود رضي الله عنهما، وبه قال سعيد بن المسيب، والنخعي، وقتادة، والحكم؛ لما رواه الحسن بن سمرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل عبده؛ قتلناه»، أخرجه أبو داود والنسائي، وهو حجة على منع ذلك، ولا دليل لهم في قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا...}؛ الآية؛ لأنَّ المراد بالسلطان: القصاص، كما مر؛ فافهم.
وقول النبي الأعظم عليه السلام: «العمد قود»، وما رواه الدارقطني عن ابن عمر: أن رسول الله عليه السلام أتي برجل من المسلمين قد قتل معاهدًا من أهل الذمة، فأمر به فقتل، وقال: «أنا أولى من وفَّى بذمته»، واعترض بأن الدارقطني قال: لم يسنده إلَّا إبراهيم بن يحيى، وهو متروك، والصواب إرساله، وبأن المقتول كان عمرو بن أمية الضمري، وأنه عاش بعد النبي عليه السلام.
وأجيب: بأن الحديث رواه مالك في «الموطأ»، واحتج به محمد، والمرسل حجة عندنا، وأمَّا المقتول؛ فيحتمل أنهما اثنان، قتل أحدهما، وعاش الآخر بعد النبي عليه السلام.
والمراد من قوله: (ولا يقتل مسلم بكافر) : الكافر: الحربي؛ لأنَّ الحديث لم يكن مفردًا لكنه كان موصولًا بغيره، وهو الذي رواه قيس بن عباد والأشتر، فإن في روايتهما: (لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده)، وهذا لا يدل على ما قالوه؛ لأنَّ ذا العهد كافر، فدل على أن الكافر الذي منع النبي عليه السلام أن يقتل به مؤمن في الحديث المذكور هو الكافر الحربي الذي لا عهد له، وهذا لا خلاف فيه لأحد أن المؤمن لا يقتل بالكافر الحربي.
ويدل لذلك أن أصل الحديث كان في خطبته عليه السلام يوم فتح مكة، وكان رجل من خزاعة قتل رجلًا من هذيل في الجاهلية، فقال عليه السلام: «ألا كل دم كان لفي الجاهلية؛ فهو موضوع تحت قدميَّ هاتين، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده»، وعهد الذمة كان بعد فتح مكة، كما قاله أهل المغازي فكأنَّ قوله يوم الفتح: «لا يقتل مؤمن بكافر»؛ منصرفًا إلى الكفار والمعاهدين؛ لأنَّه لم يكن هناك ذمي ينصرف إليه الكلام، ويدل لذلك: (ولا ذو عهد في عهده»، نعطف (ذو العهد) وهو الذمي على (المسلم)؛ وتقديره: لا يقتل مسلم ولا ذو عهد بكافر حربي؛ لأنَّ الذمي إذا قتل ذميًا؛ يقتل به.
فعلم بهذا أن المراد به الحربي؛ إذ هو لا يقتل به مسلم ولا ذمي، ووقع الإجماع على أن المسلم تقطع يده إذا سرق من مال الذمي فكذا يقتل إذا قتله، وأن قوله: (ولا ذو عهد في عهده) من باب عطف الخاص على العام، وأنه يقتضي تخصيص العام؛ لأنَّ الكافر الذي لا يقتل به ذو العهد هو الحربي دون المساوي له، والأعلى وهو الذمي، فلا يبقى أحد يقتل به المعاهد إلَّا الحربي، فيجب أن يكون الكافر الذي لا يقتل به المسلم هو الحربي تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه.
واعترض بأن الواو ليست للعطف، بل للاستئناف، وما بعده جملة مستأنفة، وردَّ بأن الأصل في الواو العطف، ودعوى الاستئناف تحتاج إلى دليل ولا دليل، وأن ذو العهد مفرد وقد عطف على الجملة فيأخذ الحكم منها؛ لأنَّ المعطوف الناقص يأخذ الحكم من المعطوف عليه التام، وأنَّ المعنى يأبى ذلك فإنَّ المراد بسوق الكلام الأول نفي القتل قصاصًا لا نفي القتل مطلقًا، فكذا الثاني تحقيقًا للعطف؛ لأنَّه لا يجوز ذلك في المفرد، لا يقال: معناه: لا يقتل مسلم بكافر ولا بذي عهد؛ أي: لا يقتل بكافر حربي ولا بذي عهد؛ لأنَّا نقول: لو أريد ذلك المعنى؛ كان لحنًا، إذ لا يجوز عطف المرفوع على المجرور فلا يجوز نسبة الرسول عليه السلام إليه؛ لأنَّه أفصح العرب، ولا يقال: روي: (ذي عهد)؛ بالجر في بعض طرقه، فيكون معطوفًا على الكافر؛ لأنَّا نقول: إن صح ذلك؛ فهو جر بالمجاورة لا بالعطف، ومثله جائز؛ كقوله عز وجل: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: ٦]؛ بالجر للمجاورة، فحملناه عليه توفيقًا بين الروايتين، والله تعالى أعلم، وتمامه في «عمدة القاري».
[حديث: إن الله حبس عن مكة القتل]
١١٢ - وبه قال: (حدثنا أبو نُعيم)؛ بضم النون (الفضل بن دُكَين)؛ بضم الدال المهملة وفتح الكاف (قال: حدثنا شَيْبان)؛ بفتح المعجمة، وسكون التحتية، بعدها موحدة: ابن عبد الرحمن أبو معاوية النحوي البصري الثقة، المتوفى ببغداد سنة أربع وستين ومئة في خلافة المهدي، (عن يحيى) : بن أبي كثير صالح بن المتوكل الطائي مولاهم، المتوفى سنة تسع وعشرين، أو اثنين وثلاثين ومئة، (عن أبي سلَمة)؛ بفتح اللام: عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، (عن أبي هريرة) : عبد الرحمن بن صخر، وللمؤلف في (الديات) : (حدثنا أبو سلمة قال: حدثنا أبو هريرة) : (أنَّ)؛ بفتح الهمزة وتشديد النون (خُزاعة)؛ بضم الخاء المعجمة بعدها زاي: حي من الأزد، منصوب اسم (أنَ)، ممنوع من الصرف؛ للعلمية والتأنيث.
وقوله: (قتلوا رجلًا) : جملة من الفعل والفاعل والمفعول، محلها الرفع خبر (أنَّ) (من بني ليث) : قبيلة (عامَ)؛ بالنصب على الظرفية (فتح مكة) : ممنوعة من الصرف؛ للعلمية والتأنيث (بقتيل) : الباء للسببية؛ أي: بسبب قتيل (منهم) : من خزاعة (قتلوه)؛ أي: قتل بنو ليث ذلك الخزاعي، وفي «السيرة» لابن إسحاق: أن خراش بن أمية من خزاعة قتل ابن الأقرع الهذلي وهو مشرك بقتيل قتل في الجاهلية يقال له: أحمر، فقال عليه السلام: «يا معشر خزاعة؛ ارفعوا أيديكم عن القتل، فمن قتل بعد مقامي هذا؛ فأهله بخير النظرين»، وذكر الحديث، قال بعضهم: فعلى هذا يكون قوله: (أن خزاعة قتلوا)؛ أي: واحدًا منهم، فأطلق عليه اسم الحي مجازًا؛ فتأمل.
(فأُخبِر)؛ بضم الهمزة وكسر الموحدة على صيغة المجهول (بذلك النبي) الأعظم؛ بالرفع مفعول نائب عن الفاعل (صلى الله عليه وسلم فركب راحلته)؛ أي: الناقة التي تصلح لأن يرحل عليها، والهاء فيه للمبالغة، (فخطب)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام، (فقال) في خطبته، والفاء للتفسير: (إنَّ الله) عز وجل، اسم (إن) (حبس)؛ أي: منع (عن مكة القَتلَ)؛ بالقاف المفتوحة والمثناة الفوقية، بالنصب مفعول (حبس) (أو الفِيْل)؛ بالفاء المكسورة وسكون التحتية: الحيوان المشهور الذي ذكره الله تعالى بقوله: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} [الفيل: ١] السورة، فأرسل الله على أصحابه {طَيْرًاأَبَابِيلَ*تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ} [الفيل: ٣ - ٤] حين وصلوا إلى بطن الوادي بالقرب من مكة، فالمراد من حبس الفيل: أهل الفيل.
وأشار بذلك إلى القصَّة للحبشة في غزوهم مكة ومعهم الفيل فمنعها الله منهم، وسلَّط عليهم الأبابيل مع أنَّ أهل مكة إذ ذاك كانوا كفَّارًا، فحرمة أهلها بعد الإسلام آكد، لكن غزو النبي الأعظم عليه السلام إيَّاها مخصوص به على ظاهر هذا الحديث وغيره، كما في «عمدة القاري».
(شكَّ أبو عبد الله) : المؤلف، وفي رواية: هي ساقطة، وفي أخرى: (قال أبو عبد الله: كذا قال أبو نعيم)، وأراد أن الشكَّ فيه من شيخه، (واجعلوا)؛ بصيغة الأمر، وللأصيلي: (واجعلوه)؛ بضمير النصب؛ أي: اجعلوا اللفظ على الشكِّ، (الفيل)؛ بالفاء، أو (القتل)؛ بالقاف، وفي (الديات) عند المؤلف: (الفيل)؛ بالفاء من غير شكٍّ، وقال الكرماني: (الفتك) بدل (القتل) بالفاء المثناة فوق أي سفك الدم على غفلة قال في «عمدة القاري» (ووجهه ظاهر، لكن لا أعلم أنه روي كذلك) اهـ.
(وسُلِّط عليهم)؛ بضم السين على صيغة المجهول (رسول الله) : مفعول ناب عن الفاعل (صلى الله عليه وسلم والمؤمنون) : رفع بالواو عطف عليه، وفي رواية: (وسَلَّط)؛ بفتح السين بصيغة المعلوم، وفيه ضمير يرجع إلى الله وهو فاعله، و (رسول الله) : مفعوله، و (المؤمنين) : منصوب بالياء عطف عليه.
(أَلا)؛ بفتح الهمزة وتخفيف اللام، للتنبيه، فيدل على تحقق ما بعدها أن الله حبس عنها، (وإنَّها) : ولأبي ذر: (فإنَّها)؛ بالفاء عطف على مقدر؛ لأنَّ (أَلا) لها صدر الكلام، والمقتضى أن يقال: أَلا إنَّها؛ بدون الواو، كما في قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ} [البقرة: ١٢]؛ والتقدير: أَلا