للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

(قلت: كون النبيذ الغير المسكر في معنى المسكر غير صحيح؛ لأنَّ النبيذ الذي لا يسكر إذا كان رقيقًا وقد ألقيت فيه تميرات؛ لتخرج حلاوتها إلى الماء ليس في معنى المسكر، ولم يقل به أحد، ولا يلزم من عدم جواز تسمية الخل ماء عدم جواز تسمية الذي ذكره ابن مسعود ماء، ألا ترى أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كيف قال: «ثمرة طيبة، وماء طهور» حين سأل ابن مسعود: «ما في إداوتك؟»، قال: نبيذ، وقد أطلق عليه الماء، ووصفه بالطهورية، فكيف ذهل الكرماني عن هذا حتى قال ما قاله ترويجًا لما ذهب إليه والحق أحق أن يتبع؟

والإِداوة؛ بكسر الهمزة: إناء صغير يتخذ من جلد للماء؛ كالسطيحة ونحوها، وجمعها: أداوى).

وقوله: (وقال أبو عبيدة...) إلخ قال: (قلت: الكلام مع أبي عبيدة فإنه إن أراد به مطلق النبيذ؛ فغير مسلَّم؛ لأنَّ فيه مصادمة الحديث النبوي، وإن أراد النبيذ الخاص -وهو الغليظ المسكر-؛ فنحن أيضًا نقول بما قال) انتهى.

قلت: وعلى هذا؛ فمطابقة الحديث للترجمة بالجر الثقيل وكان حق وضعه في كتاب (الأشربة)، كما لا يخفى.

زاد في الطنبور نغمة العجلوني، فزعم: (أن دعواه بأن النبيذ غير المسكر في معنى المسكر غير صحيح؛ ليس بصحيح على إطلاقه؛ لأنَّ غير المسكر إما أن يسلب عنه اسم الماء بحيث لا يسميه الرائي له ماء، فهذا لا يجوز التطهُّر به وإن كان لا يُسْكِر، وإما ألا يسلب عنه اسم الماء، فهذا نبيذ نقول بجواز (١) التطهير به أيضًا، وعليه؛ يحمل ما في حديث ابن مسعود الذي قال فيه الشارع: «ثمرة طيبة، وماء طهور»، وتبيَّن أن الكرماني لم يذهل، وما قال إلا لاتباع الحق لا لمجرد ترويج ما ذهب، فإن القسم الأول لا تقول الحنفية بجواز التطهير به، والقسم الثاني يقولون به أيضًا، وعبارة «الملتقى» مع «شرحه» للعلاء، وهو من الكتب المعتمدة عندهم: «لا يجوز- أي: الطهارة- بما خرج عن طبعه، وهو الرقة بكثرة الأوراق من حيث الصفة أو بغلبة غيره من حيث الأجزاء، وبالطبخ بشرط الثخانة على ما قاله قاضيخان، وكذا بتشرب النبات سواء خرج بعلاج أو لا، على الأظهر كما في «البرهان»؛ كالأشربة، والخل، وماء الورد، وماء الباقلاء، ومن المرق»، انتهت بحروفها، وبهذا يعلم أيضًا اندفاع اعتراضه الثاني، وليس فيه مصادمة للحديث؛ فعليك بالتأمل) انتهت عبارة العجلوني

قلت: وهذا كله فاسد وممنوع، فإن قوله: (ليس بصحيح) ممنوع، فإن النبيذ الغير المسكر لا يكون في معنى المسكر؛ لأنَّه قياس مع الفارق ومصادمة للحديث، ألا ترى أنه عليه السلام سماه نبيذًا، ولم يسمه خمرًا مسكرًا.

وقوله: (لأن غير المسكر...) إلخ هذا فاسد أيضًا؛ لأنَّ غير المسكر إذا سلبت عنه اسم الماء، وإذا رآه الرائي؛ لا يسميه ماء، فهذا هو النبيذ بعينه الذي جاء في الحديث، ففي الرواية السابقة قال عليه السلام: «ما في إداوتك؟»، فقال: معي نبيذ، فقال: «نبيذ؟»، فقال: «اصبب علي؛ إنه شراب وطهور»، فهذا ظاهر في أن هذا هو النبيذ بعينه.

وقوله: (لا يجوز التطهُّر به) غير صحيح، فإن الشارع صلَّى الله عليه وسلَّم قال فيه: «إنه طهور».

وقوله: (وإما ألَّا يسلب عنه اسم...) إلخ ممنوع أيضًا؛ لأنَّ هذا لا يُسمَّى نبيذًا، بل هو ماء، غاية الأمر أنه قد تغير بعض لونه، فيقال له: ماء متغير لا نبيذ، وكلامنا في النبيذ المختلف فيه، وأما المتغيَّر؛ فيجوز التطهُّر به إجماعًا.

وقوله: (وعليه يحمل ما في حديث ابن مسعود) ممنوع، فإن هذا الحمل غير صحيح، فإنه غير مصادف لمحله؛ لأنَّ الأصوليين قالوا: إذا تعارض الحديثان؛ يحمل كل منهما على محمل حسن، وهنا لم يوجد حديث يعارض حديث ابن مسعود حتى يحمل على هذا، على أن حديث ابن مسعود صريح في أن هذا لا يسمَّى نبيذًا، وإنما النبيذ ما علمت تفسيره فيما سبق، والكلام في النبيذ لا في هذا، فإن هذا خارج عن الحديث، وتسميته ماء في قوله عليه السلام: «ثمرة طيبة، وماء طهور» باعتبار أنه يجوز التطهير به، فيقوم مقام الماء المطلق بدليل الرواية الثانية؛ وهي قوله عليه السلام له: «اصبب علي؛ إنه طهور»، ولا ريب أن صبه كان لأجل الوضوء به، كما لا يخفى.

وقوله: (وتبيَّن أن الكرماني لم يذهل) بل قد ذهل وغفل الكرماني عن هذا، فقال ما قاله تعصُّبًا وترويجًا لما ذهب إليه، ولم يجر على لسانه الحق، والحق أحق أن يتبع.

وقوله: (فإن القسم الأول...) إلخ ممنوع، فإن الأئمَّة الحنفية قالوا بجواز التطهير بالنبيذ اتباعًا للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم الواجب اتباعه.

وسياقة عبارة «الملتقى» و «شرحه» لشيخ الإسلام علاء الدين أفندي الحصكفي لا تدل على ما قاله؛ لأنَّه قد فهم عبارته (٢) بالعكس، ولأن النبيذ لم يذكر في تلك العبارة، وعادة أئمتنا معاشر الأئمَّة الحنفية أن يذكروا حكم النبيذ وحده على حدة؛ لأنَّه جرى على النص لا على القياس، كما لا يخفى، على أن الذي فهمه من عبارة «الملتقى» و «شرحه» فيه مصادمة للحديث، ولم يقل به أحد من أئمتنا الأعلام، بل هذه العبارة إنَّما هي في غير النبيذ؛ لأنَّ النبيذ له حكم آخر غير هذا، وإذا لم يفهم العجلوني عبارة أئمتنا؛ كيف يستدل بها على دعواه الباطلة؟ ولا ريب أن أدنى الطلبة منا معاشر الحنفية يفهمها وفوق كل ذي علم عليم، وقد أشار إلى هذا بالتأمل؛ فلذا قال: (فعليك بالتأمل)، والله تعالى أعلم.

(٧٢) [باب غسل المرأة أباها الدم عن وجهه]

هذا (باب غسل المرأة أباها الدم عن وجهه) فقوله: (أباها) منصوب؛ لأنَّه مفعول المصدر؛ أعني: غسل المرأة، والمصدر مضاف إلى فاعله، وقوله: (الدم) منصوب بدل من (أباها) بدل اشتمال، ويجوز أن يكون منصوبًا بالاختصاص؛ تقديره: أعني الدم، وفي رواية ابن عساكر: (باب غسل المرأة الدم عن وجه أبيها)، وهذا هو الأجود، وفي رواية الكشميهني: (من وجهه)؛ والمعنى في رواية (عن) : إما أن يكون بمعنى (من)، وإما أن يضمن (الغسل) معنى الإزالة، وتجيء (عن) بمعنى (من)، كما وقع في كلام الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: ٢٥]، كذا قرره إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»، ثم قال: وههنا سؤالان؛ الأول: في وجه المناسبة بين البابين، ووجه إدخال هذا الباب في كتاب (الوضوء).

قلت: أما الأول؛ فيمكن أن يقال: إن كلًّا منهما يشتمل على حكم شرعي، أما الأول؛ ففيه أن استعمال النبيذ لا يجوز، وأما الثاني؛ فلأن ترك النجاسة على البدن لا يجوز، فهما متساويان في عدم الجواز، وهذا المقدار كاف) انتهى.

قلت: وقوله: (إن استعمال...) إلخ؛ يعني: إذا كان غليظًا مسكرًا؛ فافهم.

ثم قال: وأما الجواب عن الثاني؛ فهو أن النسخة إن كانت كتاب (الطهارة) بدل كتاب (الوضوء)، فالمراد منه: إما معناه اللغوي؛ لأنَّه مأخوذ من الوضاءة؛ وهي الحسن والنظافة، فيتناول حينئذٍ رفع الخبث أيضًا، وإما معناه الاصطلاحي؛ فيكون ذكر الطهارة عن الخبث في هذا الكتاب، فالتبعية بطهارة الحدث، والمناسبة بينهما كونها من شرائط الصَّلاة، ومن باب النظافة وغير ذلك، فهذا حاصل ما ذكره الكرماني، ولكن أحسن فيه وإن كان لا يخلو عن بعض تعسُّف) انتهى كلام «عمدة القاري»؛ فليحفظ.

(وقال أبو العالية)؛ بالعين المهملة، هو رُفَيع؛ بضمِّ الراء، وفتح الفاء، وسكون التحتية، الرياحي: (امسحوا على رجلي) بالإفراد؛ (فإنها مريضة) وكانت بها جمرة، وهذا يدل على أنه غسل الصحيح ومسح الجريح من غير أن يضم إليه التيمم، كما هو مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، وزعم الشافعية أنه يضم إليه التيمم، ولا معنى لهذا؛ لأنَّ فيه الجمع بين البدل والمبدل منه (٣)، وهو غير مطلوب، ولا فائدة فيه، ويكون عبثًا، فقول أبي العالية قاصر على غسل الصحيح، ومسح الجريح لا صادق بكونه مع التيمم، كما زعمه العجلوني ترويجًا لمذهبه، فإنه احتمال بعيد، ويدل لما قلنا أن هذا التعليق وصله عبد الرزاق عن معمر، عن عاصم بن سليمان قال: (دخلنا


(١) في الأصل: (بجوازه)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (عبارتها)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٣) في الأصل: (عنه).

<<  <   >  >>