للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

قلت: إذا كان كذلك؛ يفيد استحباب التيمن في بعض الأمور، وتأكيد شأنه بالكلِّ يفيد استحبابه في كلِّها.

قلت: هذا تخصيص بعد تعميم، وخصَّ هذه الثلاثة بالذكر؛ اهتمامًا بها وبيانًا لشرفها، ولا مانع أن يكون بدل الكل من الكل؛ لأنَّ الطهور مفتاح أبواب العبادات، والترجل يتعلق بالرأس، والتنعل بالرجل، وأحوال الإنسان، إمَّا أن تتعلق بجهة الفوق، أو بجهة التحت، أو بالأطراف؛ فجاء لكلٍّ منها بمثال، كذا قاله إمام الشَّارحين، وهذا الحديث قد سبق في باب (التيمن في الوضوء والغسل)؛ فافهم.

ومطابقته للترجمة من حيث عمومه؛ لأنَّ عمومه يدلُّ على البداءة باليمين في دخول المسجد وغيره، والشأن بمعنى الحال، والمعنى: يحب التيمن في جميع حالاته، والله تعالى أعلم.

(٤٨) [باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد]

هذا (بابٌ)؛ بالتنوين: (هل تُنبش) بضمِّ المثناة الفوقية؛ أي: تحفر (قبور مشركي الجاهلية)؛ يعني: يجوز نبش قبور المشركين الذين هلكوا في الجاهلية؛ لما صُرِّح به في حديث الباب، و (هل) ههنا؛ للاستفهام التقريري، وليس باستفهام حقيقي، صرَّح بذلك جماعة من المفسرين في قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [الإنسان: ١]، وتأتي (هل) أيضًا بمعنى (قد)، كذا فسر الآية جماعة منهم: ابن عبَّاس، والكسائي، والفراء، والمبرد وذكر في «المقتضب» : (أنَّ «هل» للاستفهام نحو: هل جاء زيد، ويكون بمنزلة «قد» نحو قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ})، وقد بالغ الإمام الزمخشري، فقال: (إنَّها أبدًا بمعنى (قد)، وإنَّما الاستفهام مستفاد من همزة مقدرة معها)، ونقله في «المفصل» عن سيبويه، وقال في «كشافه» : ({هَلْ أَتَى}، على معنى: التقرير والتقريب فيه جميعًا)، ومن عَكَس الزمخشري ههنا فقد عَكَسَ نفسه:

إذا قالت حذام فصدقوها... فإنَّ القول ما قالت حذام

وهذا الذي ذكرناه أحسن من الذي يقال: إنَّ ذكر كلمة (هل) هنا ليس له محل؛ لأنَّ عادته إنَّما يذكر (هل)؛ إذا كان حكم الباب فيه خلاف، وليس ههنا خلاف، ولم أرَ شارحًا ههنا شفى العليل، ولا أروى الغليل، قاله إمام الشَّارحين، وفسر ابن حجر: باب: (هل تنبش قبور مشركي الجاهلية) بقوله: (أي: دون غيرهم من قبور الأنبياء وأتباعهم).

ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا تفسير عجيب مستفاد من سوء التصور؛ لأنَّ معناه ظاهر، وهو جواز نبش قبور المشركين؛ لأنَّهم لا حرمة لهم، فيستفاد منه عدم جواز نبش قبور غيرهم، سواء كانت قبور الأنبياء أو قبور غيرهم من المسلمين؛ لما فيه من الإهانة لهم، ولا يجوز ذلك؛ لأنَّ حرمة المسلم لا تزول حيًّا وميتًا، فإن كان هذا القائل اعتمد هذا التفسير على حديث عائشة المذكور في الباب؛ فليس فيه ذكر النبش، وهو ظاهر، وإنما فيه: أنَّهم إذا مات فيهم رجل صالح يبنون على قبره مسجدًا، ويصورون فيه تصاوير، ولا يلزم من ذلك النبش؛ لأنَّ بناء المسجد على القبر من غير نبش متصور) انتهى.

(ويُتَّخَذ مكانها مساجد) عطف على قوله: (تنبش)، و (مكانها)؛ بالنصب على الظرفية، و (مساجد)؛ مرفوع؛ لأنَّه مفعول ناب عن الفاعل، هذا إذا جُعل الاتخاذ متعديًا إلى مفعول واحد، فإذا جُعل متعديًا إلى مفعولين على ما هو الأصل من أنه من أفعال التصيير كما في قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: ١٢٥]؛ فيكون أحد المفعولين (مكانها)، فيُرفع على أنَّه مفعول قام مقام الفاعل، والمفعول الثاني هو (مساجد)؛ بالنصب، كذا قرره إمام الشَّارحين، ثم قال: (فإنَّ الكرماني ذكر فيه ما لا يخفى عن نظر وتأمل) انتهى.

قلت: وهذا التفسير مبني على روايتين في ذلك؛ أحدهما: نصب (مكانَها)، و (مساجدَ) مفعولين لـ (يتخذ)، والثانية: نصب (مكانَها) على الظرفية، ورفع (مساجدُ) نائبًا عن الفاعل؛ فافهم، والله أعلم.

(لقول النبيِّ) الأعظم؛ أي: لأجل قوله فيما وصله المؤلف في أواخر كتاب (الجنائز)، فقال: حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا أبو عوانة عن هلال، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم: لعن الله اليهود) زاد في رواية (الجنائز) : (والنصارى)؛ أي: لأجل كونهم، (اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وهذا تعليل لقوله: (ويتخذ مكانها مساجد) خاصة؛ لأنَّ الترجمة شيئان، والتعليل للشق الثاني، ووجه الاستدلال به: أنَّ اليهود لَّما خصوا باللعنة باتخاذهم قبور الأنبياء مساجد؛ عُلم منه عدم جواز اتخاذ قبور غيرهم ومن هم في حكمهم من المسلمين؛ لما فيه من الإهانة لهم؛ لأنَّ حرمة المسلم لا تزول حيًّا وميتًا، لا يقال: في اتخاذ قبور المشركين مساجد تعظيم لهم؛ لأنَّا نقول: لا يستلزم ذلك؛ لأنَّه إذا نُبشت قبورهم ورُميت عظامهم؛ تصير الأرض طاهرة منهم، والأرض كلُّها مسجد؛ لقوله عليه السَّلام: «جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، رواه المؤلف فيما سبق، وقال أئمتنا الأعلام: (ويجوز نبش قبور الكفار وجعل مكانها مساجد)، وبه صرح الإمام الجليل قاضيخان، لكن قيده بكون عظامهم فنيت وادثرت آثارهم، فأفاد أنَّ إلقاء عظامهم مكروه؛ لأنَّ فيه إهانة لبني آدم؛ لأنَّ عظم الآدمي وإن كان كافرًا؛ فهو غير مهان، وفيه تأمل، واستدل أئمتنا الأعلام على جواز ذلك بما فعله النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في نبش قبورهم، واتخذ مكانها مسجده النبوي، وإنَّما كان النبش جائزًا؛ لما فيه من الاستهانة فيهم، ولأنَّه لا ذمة لهم، فلا حرج في نبشهم واتخاذ مكانهم مساجد؛ لأنَّه من قبيل تبديل السيئة بالحسنة، وعلى هذا؛ فلا تعارض بين فعله عليه السَّلام في نبش قبورهم واتخاذ مسجده مكانها، وبين لعنه عليه السَّلام من اتخاذ قبور الأنبياء مساجد؛ لما ذكرنا من الفرق، وفي هذا الحديث: الاقتصار على لعن اليهود؛ فيكون قوله: «اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» واضحًا؛ لأنَّ النصارى لا يزعمون نبوة عيسى، بل يدعون أنَّه ابن أو إله أو غير ذلك على اختلاف مللهم الباطلة، ولا يزعمون موته حتى يكون له قبر، وأمَّا من قال منهم: إنه قتل؛ فله في ذلك كلام حاصله: أنَّه رُفع إلى السماء، وسينزل، واستشكلت (١) الرواية التي في كتاب (الجنائز) من إثبات اللعن لليهود والنصارى، وأجيب: بأنَّه مبني على أنَّه عليه السَّلام كان مبلِّغًا للشريعة السابقة، أو أنَّه قُتل ودُفن بالأرض في بيت لحم، وسيأتي بقية الكلام عليه في موضعه.

(وما يكره من الصلاة في القبور) هذا عطف على قوله: (هل تنبش)، لا يقال: إنَّ هذه جملة خبرية، وقوله: (هل تنبش) جملة طلبية، فكيف يصح عطفها عليها؟ لأنَّا نقول: قد ذكرنا أنَّ (هل) استفهام تقريري، وهو في حكم الجملة الخبرية الثبوتية، وقوله هذا يتناول ما إذا صلى على القبر أو إليه أو بينهما، وفيه حديث أبي مرثد واسمه: كناز بن الحصين، أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، ولفظه: «لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها»، وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الأرض كلُّها مسجد إلا المقبرة والحمَّام...»؛ الحديث، كذا في «عمدة القاري».

قلت: يعني: أنه تجوز


(١) في الأصل: (واستشكل).

<<  <   >  >>