للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

«الصَّحيحين» عن عروة عن عائشة قالت: (كان رسول الله يصلِّي وأنا معترضة بين يديه كاعتراض الجنازة)، وقد روي هذا بوجوه؛ منها فيه: (وأنا حائض وأنا حذاءه)، ووجهه: أنَّ اعتراض المرأة خصوصًا الحائض بين المصلي وبين القبلة؛ لا يقطع الصلاة، فالمارة بالطريق الأولى.

وبوَّب أبو داود في «سننه» : (باب من قال: الحمار لا يقطع الصلاة)، وبوَّب أيضًا: (باب من قال: الكلب لا يقطع الصلاة)، ثم روى عن الفضل بن عبَّاس قال: (أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في بادية ومعه عبَّاس، فصلى في الصحراء ليس بين يديه سترة وحمارة لنا وكلبة تعبثان بين يديه، فما بالى ذلك)، وأخرجه النسائي أيضًا.

وروي عن ابن عبَّاس: يقطع الصلاة الكلب الأسودوالمرأة الحائض.

وعن عكرمة: يقطع الصلاة الكلب، والحمار، والخنزير، والمرأة، واليهودي، والنصراني، والمجوسي.

وروي عن أنس ومكحولوأبي الأحوصوالحسن: يقطع الصلاة الكلب، والحمار، والمرأة.

وعن عطاء: لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود والمرأة الحائض.

وعن أحمد ابن حنبل في المشهور عنه: يقطع الصلاة مرور الكلب الأسود البهيم (١)، وفي رواية أخرى عنه: يقطعها أيضًا الحمار، والمرأة، والبهيم.

وزعم ابن الملقن أنَّ عند أحمد: الكلب الأسود لا يقطع الصلاة، واعترضه العجلوني بأنَّ فيه نظر؛ لأنَّ في «شرح المنتهى» صرَّح أنَّ مرور الكلب الأسود يقطع الصلاة بلا خلاف عندهم، وإنَّما الخلاف في المرأة والحمار، والصَّحيح: أنَّ مرورهما يقطعها، ثم قال العجلوني: (ولم أر في مذهبهم حكم ما إذا مرَّ بين السترة والمصلي، والظَّاهر أنَّ مروره لا يضر؛ لعدم التقصير منه) انتهى.

قلت: هو لم يُحطْ بمذهبه فضلًا عن مذهب أحمد على أنَّه هذه جرأة على المذهب؛ كيف يستظهر حكمًا لم يره عندهم؟ وانظر تعليله بعدم التقصير، وقد رأيت الحكم عندهم؛ ففي «الكفاية» و «شرحها» : (ويحرم مرور بين مُصلٍّ وبين سترته ولو بَعُدَ عنها، ومع عدمها -أي: السترة- يحرم المرور بين يديه قريبًا منه، وحدُّ القُرْب: ثلاثة أذرع فأقل من قَدم المصلي بذراع اليد) انتهى.

فهذا كما رأيت قد صرح بحرمة المرور، وأنَّه لا يقطع الصلاة، فالحكم وإن كان مسطورًا في محله، إلا أنَّ الجرأة عليه مذمومة؛ للحديث الصَّحيح: «أجرؤكم على الفتياأجرؤكم على النَّار»؛ فانظر جرأة الشَّافعية على المذاهب، وما هذا إلا سوء الأدب؛ فافهم.

ويدل لما ذهب إليه هؤلاء ما رواه مسلم عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه كآخرة الرحل: المرأة، والحمار، والكلب الأسود»، قلت: ما بال الأسود من الأحمر؟ قال: يا بن أخي؛ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني، فقال: «الكلب الأسود شيطان».

قلت: ولا دليل فيه لاحتمال أنَّه منسوخ بحديث أبي داود عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقطع الصلاة شيء، وادرؤوا ما استطعتم، فإنَّما هو شيطان».

وفي الباب عن ابن عمر عند الدارقطني في «سننه»، وأبي أمامة وأنس عنده أيضًا، وجابر عند الطَّبراني في «الأوسط»، وهذه الأحاديث وإن تكلم فيها ابن الجوزي تعصبًا إلا أنَّ طرقها عديدة وبها تتقوى وترتقي إلى رتبة الصَّحيح أو الحسن؛ لأنَّه لا عبرة بوضع ابن الجوزي عند المحدثين على أنَّه قال النَّووي: وتأول الجمهور القطع في الحديث على قطع الخشوع جمعًا بين الأحاديث.

قال إمام الشَّارحين: (هذا جيد فيما إذا كانت أحاديث هذا الباب مستوية الأقدام، وأمَّا إذا قلنا: أحاديث الجمهور أقوى وأصح من أحاديث من خالفهم؛ فالأخذ بالأقوى أولى وأقوى) انتهى.

قلت: ما زعمه النَّووي غير جيد؛ لأنَّ الخشوع في الصلاة ليس شرطًا فيها حتى يحمل القطع على قطع الخشوع، فالصَّواب ما قاله إمام الشَّارحين أنَّ أحاديث الجمهور أقوى وأصح، والعمل بالأقوى والأصح متعين؛ فافهم.

لا يقال: إنَّ مرور حمار ابن عبَّاس كان خلف الإمام بين يدي بعض الصف والإمام سترة لمن خلفه؛ لأنَّا نقول: هو مردود بما رواه البزار: أن المرور كان بين يديه عليه السَّلام، وحديث أبي داود عن سعيد بن غزوان عن أبيه قال: أقبلت وأنا غلام حتى مررت بينه وبين النخلة، فقال عليه السَّلام: «قطع صلاتنا...»؛ الحديث، فهو قد سكت عنه أبو داود، وقال غيره: إنَّه واهٍ، وعلى كل؛ فهو منسوخ بحديث ابن عبَّاس؛ لأنَّ ذلك كان بتبوك، وحديثه كان في حجة الوداع بعدها.

وفي الحديث: جواز قصر الصلاة الرُّباعية، بل هو أفضل من الإتمام، وهل هو رخصة أو عزيمة؟ فيه خلاف بين الإمام الأعظم وبين الشَّافعي على ما يأتي بيانه، والحقُّ ما قاله الإمام الأعظم: أنَّ القصر عزيمة؛ لقول عائشة: (إنَّ الصلاة فرضت ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فزيدت في الحضر وأقرت في السفر)، رواه أبو داود، فإذا أتم الرُّباعية؛ إن قعد القعود الأول؛ صحت مع الكراهة، وإن لم يقعد؛ فسدت صلاته، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

(٩١) [باب قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلى والسترة]

هذا (باب) بيان (قدْرِ)؛ بإسكان الدَّال المهملة؛ بمعنى: مقدار (كم ينبغي) أي: يُطلَب شرعًا (أن يكون بين المصلِّي)؛ بكسر اللَّام، اسم فاعل؛ أي: الشخص الذي يريد الصلاة (والسُّترة)؛ أي: بينهما، وهي أعم من أن تكون عنزة، أو حربة، أو عصا، أو نحوها؛ وهي -بضم السين المهملة-: ما يستتر به عند الصلاة من المارين.

وزعم ابن حجر أنَّه يحتمل فتح اللَّام؛ أي: المكان الذي يُصَلَّى فيه.

وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (هذا الاحتمال أخذه قائله من كلام الكرماني حيث قال: «فإن قلت: الحديث دل على القدر الذي بين المصلَّى -بفتح اللَّام- والسترة، والتَّرجمة بكسر اللَّام؛ قلت: معناهما متلازمان» انتهى.

قلت: لا يلزم من تلازمهما عقلًا اعتبار المقدار؛ لأنَّ اعتبار المقدار بين المصلي وبين السترة، لا بينهما وبين المكان الذي يصلِّي فيه) انتهى كلامه.

واعترضه العجلوني بأنَّه وارد؛ لأنَّ اعتبار المكان المصلَّى من حيث إنَّه مصلًّى فيه اعتبار المصلِّي فيه، والأمر سهل، انتهى.

قلت: هذا كلام فاسد التركيب والمعنى، فإنَّ اعتبار المصلِّي غير اعتبار المكان الذي يصلِّي فيه، وبينهما تنافٍ؛ لأنَّ التَّرجمة صريحة في أنَّ المراد بالمصلِّي؛ بكسر اللَّام: الشخص الذي يريد الصلاة؛ بدليل عطف (السترة) عليه، وهو يقتضي المغايرة؛ لأنَّ السترة إذا وضعت في المسجد الصغير؛ فمكانها يقال له أيضًا: مصلَّى؛ بفتح اللَّام، فيصير ذلك عامًّا في مكان السترة، وليس هذا بمراد للمؤلف، وإنَّما مراده: بكسر اللَّام: الشخص الذي يصلِّي أو يريد الصلاة؛ فافهم.


(١) في الأصل: (والبهيم)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>