للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

في الطرقات ونحوها؛ لأنَّها وضعت في غير حقها، فمن صلى فيها متأولًا أنَّه صلى في الطريق؛ أجزاه)، قال: (ولو كان مسجد في متسع وأراد الإمام الزيادة فيه ما لا يضر بالساكنين؛ لم يمنع عند مالك، ومنعه ربيعة، وصححه ابن بطال؛ لأنَّه غير عائد إلى جميعهم، وقد ترتفق به الحائض والنفساءن ومن لا تجب عليه من الأطفال، ومن يسلكه من أهل الذمة) انتهى.

قلت: وما صححه ابن بطال هو الصَّواب، كما لا يخفى على أولي الألباب.

[حديث: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين]

٤٧٦ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا يحيى ابن بُكير)؛ بِضَمِّ الموحَّدة مصغرًا، نسبه لجده؛ لشهرته به، وإلا؛ فأبوه عبد الله، المخزومي البصري (قال: حدثنا اللَّيث) هو ابن سعد الفهمي المصري الحنفي، (عن عُقَيل)؛ بِضَمِّ العين المهملة: هو ابن خالد الأيلي المصري، (عن ابن شهاب) هو محمَّد بن مسلم الزهري المدني (قال: أخبرني) بالإفراد (عُروة بن الزُّبير)؛ بِضَمِّ العين المهملة في الأول، وضم الزاي في الثاني: هو ابن العوام القرشي المدني، وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني: (فأخبرني)؛ بالفاء، ولأبي الوقت والأصيلي: (وأخبرني)؛ بالواو، وعليهما فهو معطوف على مقدر كأن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بكذا وكذا فأخبرني أو وأخبرني عقيب تلك الإخبارات بهذا: (أنَّ عائشة) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر (زوج النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) ورضي عنهما: أنَّها (قالت: لم أعقل) أي: لم أعرف (أبوي)؛ أي: أبا بكر وأم رومان، وهذه التثنية من باب التغليب، وفي بعض النُّسخ: (أبواي)؛ بالألف، وذلك على لغة بني الحارث بن كعب جعلوا الاسم المثنى نحو الأسماء التي آخرها ألف (١)؛ كعصى، فلم يقلبوها ياء في الجر والنصب، أفاده إمام الشَّارحين.

قلت: والتغليب جَارٍ على الروايتين؛ فافهم.

(إلا وهما يدِينان الدِّينَ)؛ بكسر الدَّال المهملة فيهما؛ أي: يتدينان بدين الإسلام، وانتصاب (الدِّين) بنزع الخافض، يقال: دان بكذا ديانة، وتديَّن به تديُّنًا، ويحتمل أن يكون مفعولًا به، و (يدين) بمعنى: يطيع، ولكنه فيه تجوز من حيث جعل الدِّين كالشخص المطاع، قاله في «عمدة القاري».

قلت: وعلى هذا؛ فهو على سبيل الاستعارة المكنية والتخييلية، وفي الكلام إشارة إلى تقدم إسلام أم رومان أيضًا؛ فليحفظ.

(ولم يمُر)؛ بِضَمِّ الميم؛ أي: لم يمض (علينا)، ففيه تغليب المتكلم، وللأصيلي، وأبي الوقت، وابن عساكر: (عليهما) أي: على أبوي (يوم) وهو شرعًا: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وعند أهل الفلك: من طلوع الشمس إلى غروبها، وقولها: (إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار)؛ بالنصب على الظرفية الزمانية، صادق بالنهار الشرعي والفلكي، بل الأظهر الثاني؛ فافهم (بكرةً وعشيةً) : منصوبتان على الظرفية يدلان على التأكيد، أو هما بدلان؛ فافهم، (ثم بدا)؛ بغير همز؛ أي: ظهر، من بدا الأمر بدوًّا-مثل: قعد قعودًا- أي: ظهر، قال الجوهري: (بدا له في هذا الأمر؛ أي: نشأ له رأي فيه)، كذا في «عمدة القاري».

قلت: وفي التعبير بـ (ثم) إشارة إلى التراخي، وهو على حقيقته؛ لأنَّ ههنا قصة سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.

(لأبي بكر) : متعلق بـ (بدا) (فابتنى مسجدًا) أي: أمر ببنائه (بفِناء داره)؛ بكسر الفاء ممدودًا؛ وهو ما امتد من جوانبها، (فكان) أي: أبو بكر (يصلِّي فيه)؛ أي: في المسجد المذكور ليلًا، وبعض صلاة النهار، (ويقرأ القرآن)؛ أي: ما نزل منه وقتئذٍ، (فيقف عليه) أي: على أبي بكر حين يقرأ في المسجد (نساء المشركين وأبناؤهم) في ذهابهم وإيابهم في الطريق، وكان المسجد له شبابيك تطل على الطريق العام فينظرونه منها (يعجبون منه)؛ أي: من أبي بكر في حسن قراءته، أو من القرآن العظيم، (وينظرون إليه) حيث يقرأ بين المشركين جهرًا ولا يبالي بهم.

(وكان أبو بكر رجلًا بكَّاء)؛ بتشديد الكاف على وزن (فعَّال)، مبالغة (باك)؛ أي: كثير البكاء من خشية الله تعالى (لا يملك عينيه)؛ بالتثنية؛ أي: لا يطيق إمساكهما ومنعهما من البكاء؛ (لرقة قلبه)، قال إمام الشَّارحين: (وفي بعض النُّسخ: «لا يملك عينه»؛ بالإفراد، وهو وإن كان مفردًا، لكنه جنس يطلق على الواحد والاثنين) انتهى، (إذا قرأ القرآن)، قال الشَّارح: («إذا» : ظرفية، والعامل فيه: «لا يملك»، أو شرطية، والجزاء مقدر يدل عليه: «لا يملك»؛ فافهم، (فأفزع)، من الإفزاع: وهو الإخافة؛ أي: أخاف (ذلك)؛ أي: وقوف من ذكر عليه، قاله الشَّارح، و (ذلك) فاعل (أخاف)، وزعم العجلوني: (ويحتمل أنَّ الإشارة لفعل أبي بكر المذكور)؛ وهو بعيد، والأول أظهر؛ لأنَّ فعله لا يخوفهم، كما لا يخفى، وقوله: (أشراف)؛ بالنصب مفعول (أفزع)؛ أي: أعاظم (قريش من المشركين)؛ أي: خافوا من ميل الأبناء والنساء إلى دين الإسلام.

ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة، قال إمامنا الشَّارح: (وقد ذكر البخاري في كتاب «الهجرة» هذا الحديث مطولًا بهذا الإسناد، وزاد فيه بعد قوله: «عشية» وقبل قوله: «ثم بدا لأبي بكر» قصة طويلة في خروج أبي بكر من مكة، ورجوعه في جِوَارِ ابن الدغنة، واشتراطه عليه ألَّا يستعلن بعبادته، فعند فراغ القصة قال: «ثم بدا») انتهى.

قلت: وحاصل القصة: أنَّ الصديق لما أوذي؛ خرج من مكة مهاجرًا حتى بلغ برك الغماد (٢)، فرده ابن الدغنة، ورجع معه إلى مكة، وأجاره منهم بشرط ألَّا يصلِّي في بيته، ولا يستعلن بالقراءة، ثم بعد ذلك بدا للصديق، فابتنى مسجدًا بفِناء داره، فسير المشركون إلى ابن الدغنة، فجاء للصديق، فقال له: إمَّا أن تصلي في بيتك، وإلا؛ فرد جواري، فقال الصديق: فإنِّي أرضى بجوار الله، وأرد إليك جوارك، وهذا من قوة يقين الصديق رضي الله عنه، انتهى.

وقال إمام الشَّارحين: (ويستفاد من الحديث: جواز بناء المسجد في الطريق إذا لم يكن ضرر للعامة كما ذكرنا، وفيه: بيان فضل أبي بكر رضي الله عنه مما لا يشاركه فيه أحد؛ لأنَّه قصد تبليغ كتاب الله وإظهاره مع الخوف على نفسه، ولم يبلغ شخص هذه المنزلة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه: فضائل أخرى لأبي بكر، وهي قدم (٣) إسلامه وإسلام أبويه، وتردد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه طرفي النهار، وكثرة بكائه، ورقة قلبه، مما سيأتي في محله إن شاء الله تعالى) انتهى.

(٧٨) [باب الصلاة في مسجد السوق]

هذا (باب) حكم (الصلاة في مسجد السوق)؛ بالإفراد لأبي ذر، وفي رواية الأكثرين: (مساجد)؛ بالجمع، والمراد به: جواز الصلاة في المساجد التي بنيت في الأسواق والشوارع، وقال الكرماني:


(١) تكرر في الأصل: (ألف).
(٢) في الأصل: (العماد)، وهو تصحيف.
(٣) في الأصل: (أقدم)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>