(المراد بـ «المساجد» : مواضع إيقاع الصلاة، لا الأبنية الموضوعة للصلاة من المساجد، فكأنَّه قال: باب الصلاة في مواضع الأسواق).
وقال ابن بطال: (روي: «أنَّ الأسواق شر البقاع»، فخشي البخاري أن يتوهم من رأى ذلك الحديث أنَّه لا يجوز الصلاة في الأسواق استدلالًا به، فجاء بحديث أبي هريرة؛ إذ فيه إجازة الصلاة في السوق، وإذا جازت الصلاة في السوق فُرادى؛ كان أولى أن يتخذ فيه مسجد للجماعة).
وقال ابن حجر: (موضع التَّرجمة الإشارةُ إلى أنَّ الحديث الوارد في أنَّ الأسواق شر البقاع، وأنَّ المساجد خير البقاع، كما أخرجه البزار وغيره؛ لا يصح إسناده، ولو صح؛ لم يمنع وضع المسجد في السوق؛ لأنَّ بقعة المسجد حينئذٍ تكون بقعة خير).
واعترضهم إمام الشَّارحين، فقال: (كل منهم قد تكلف؛ أمَّا الكرماني؛ فإنَّه ارتكب المجاز من غير ضرورة، وأمَّا ابن بطال؛ فإنَّه من أين تحقق خشية البخاري مما ذكره حتى وضع هذا الباب؟ وأمَّا القائل الثالث -يعني: ابن حجر-؛ فإنَّه أبعد جدًّا؛ لأنَّه من أين علم أنَّ البخاري أشار به إلى ما ذكره؟ والأوجه أن يقال: إنَّ البخاري لما أراد أن يورد حديث أبي هريرة الذي فيه الإشارة إلى أنَّ المصلي لا يخلو إمَّا أن يكون في المسجد التي بني لها، أو في بيته الذي هو منزله، أو السوق؛ وضع بابًا فيه جواز الصلاة في المسجد الذي في السوق، وإنَّما خص هذا بالذكر من بين الثلاثة؛ لأنَّه لما كان السوق موضع اللغط، واشتغال الناس بالبيع والشراء، والأيمان الكثيرة فيه بالحق والباطل، وربما كان يُتَوهم عدم جواز الصلاة فيه من هذه الجهات؛ خصه بالذكر) انتهى.
واعترضه العجلوني فزعم: (يقال عليه: من أين مراد البخاري ما ذكره؟ فما كان جوابه فهو جوابهم، وقوله عن الكرماني: أنَّه ارتكب المجاز من غير ضرورة؛ فيه أنَّه الأصل الحقيقي إلا أن يريد بالنسبة للمعنى المتعارف، على أنَّه ليس الكلام للكرماني، بل لصاحب التراجم كما نقله عنه الكرماني)، وقال العجلوني قبله: (وما قاله الكرماني أنسب، والأولى أن يراد ما يشمل الأمرين معًا؛ لأنَّه أعم فائدة) انتهى.
قلت: وكلامه فاسد الاعتبار، فإنَّ قوله: (يقال عليه...) إلى آخره؛ صاحب الفهم الصَّحيح يعلم أنَّ مراد البخاري ما ذكره من وضع حديث أبي هريرة تحت هذه التَّرجمة، وفيه المطابقة لها صريحًا، وفيه بيان أنَّ المصلي إذا صلى في بيته؛ لم يحصل له هذا الثواب، وهو صادق بوجهين، فهو ثلاثة التي (١) ذكرها إمام الشَّارحين، وليس هذا يصلح جوابًا لهؤلاء كما زعمه؛ لأنَّ الكرماني لم يأخذ كلامه من بيان الحديث، بل أخذه من الفهم السقيم، وابن بطال أخذ كلامه من حديث: «شر البقاع الأسواق»، وتبعه ابن حجر، وأخذ من كلامه واستند لهذا الحديث، وكل هذا ليس بمراد للمؤلف، فليس لهؤلاء جواب غير أنَّه كلام غير مفيد للمقام على أنَّ حديث: «شر البقاع الأسواق» لا يصح إسناده، فهو ضعيف، فكيف يحتج به؟ وكيف يتوهم أحد منه عدم الجواز مع وجود حديث أبي هريرة؟ فإنَّ البخاري لو كان مراده الحديث وصح عنده؛ لذكره، وما ذلك إلا قول صادر من غير تأمل.
وقوله: (فيه أنَّه الأصل...) إلخ؛ ممنوع، فإنَّ الأصل في الكلام الحقيقة عند أهل المعارف لا المجاز، ولم يقل أحد غيره بأنه الأصل على أنَّه لا يجوز عند المحققين العدول عن الحقيقة إلى المجاز مع وجود الحقيقة؛ لأنَّها الأصل في الكلام؛ فليحفظ، فهذا كلام صادر من غير تأمل.
وقوله: (إلا أن يريد..) إلى آخره؛ ممنوع أيضًا، فمن المتعارف أنَّ المسجد اسم للأبنية المعروفة، وليس يعرف أنَّ المسجد موضع إيقاع الصلاة، كما لا يخفى.
(وكونه ليس الكلام للكرماني..) إلى آخره: ليس بلازم؛ لأنَّ إمام الشَّارحين ينظر للمقال، ولا ينظر لمن قال، وليس له فيه حظ نفس ولا نحوه، على أنَّه كم وقع الكرماني في خبط أبلغ من هذا، وكم رأينا له هفوات، فليس هذا بأول هفوة، على أنَّه لو كان المراد بالمساجد مواضع إيقاع الصلاة -كما زعمه وادعى العجلوني أنَّه أنسب-؛ لكان حديث أبي هريرة غير مطابق للتَّرجمة، ولكان على المؤلف أن يترجم له بـ (باب مواضع الصلاة)، ولما ترجم بهذا؛ علم أنَّ ما ذكره ليس بمراد له، ولا إشارة إليه، كما لا يخفى.
وقوله: (والأولى أن يراد...) إلى آخره؛ ممنوع؛ لأنَّ البخاري صرح في ترجمته بلفظ: (المساجد)، ولم يرد به مواضع الصلاة، كما هو صريح ترجمته، والحديث يدل عليه، وليس فيما ذكره العجلوني أعمية فائدة؛ لأنَّ الفائدة بما ترجم به موجودة بالعموم على أنَّه ليس فيما ذكره فائدة أصلًا؛ لأنَّه إذا حمل كلامه على ما يلزم عليه العمل بحقيقة الكلام ومجازه وهو غير جائز عند الجمهور، والمؤلف لا يعمل بمثله؛ فعلم منه أنَّه ليس بمراد للمؤلف ولا إشارة إليه.
(وصلى ابن عون)؛ بالنُّون، هو عبد الله بن أرطبان البصري، من السَّادسة، المتوفى سنة إحدى وخمسين ومئة، يروي عن ابن سيرين وغيره، وزعم ابن المُنَيِّر أنَّه ابن عمر، وردَّه إمام الشَّارحين: (بأنَّه تصحيف، والصَّحيح أنَّه ابن عون، وكذا وقع في الأصول) انتهى.
قال العجلوني: (رأيت في «المصابيح» نقلًا عنه: «ابن عون» بلا تصحيف) انتهى.
قلت: هذه النُّسخة التي رآها أيضًا هي تصحيف؛ لأنَّ الثابت في النُّسخ عنه: «ابن عمر» بالتصحيف كما نقله الشراح، فكيف يدعي ذلك؟ فافهم.
(في مسجد في دار يغلق عليهم الباب)؛ أي: على ابن عون ومن معه باب الدار، فضمير (عليهم) يرجع له ولمن معه، قال القسطلاني: (وليس في هذا ذكر السوق، فالله أعلم بوجه المطابقة) انتهى.
قلت: أشار إلى أنَّه لا مطابقة بين هذا والتَّرجمة، والظَّاهر أن يقال: إنَّ دار ابن عون في السوق والمسجد الذي فيها بابه في السوق، وأنَّ أهله يصلُّون فيه؛ بدليل قوله: (عليهم)، فإنَّه راجع إلى ابن عون ومن معه، وهم أهل السوق، فصدق عليه أنَّ صلاته كانت في مسجد السوق، وإغلاق الباب؛ لأجل عدم دخول كلب ونحوه، لا لأجل الناس؛ فافهم، فطابق التَّرجمة من هذا الوجه؛ فافهم.
وزعم صاحب «المنحة» بأنَّ وجه المطابقة قياس اتخاذ المسجد في السوق على اتخاذه في الدار بجامع أنَّ كلًّا منهما محجور بأهل ما حواه، انتهى.
قلت: هذا قياس مع الفارق، ولو كان مراد المؤلف اتخاذ المسجد في الدار؛ لكان ترجم له أو أدخله في ترجمته، وليس لهذا الجامع الذي ذكره وجه، فإنَّ السوق ليس أهله محجورين وكذلك الدار؛ لأنَّ السوق يدخله البائع، والشَّاري، والمتفرج، والغريب، والمقيم، وكذلك الدار يدخلها صاحب الحاجة، والضيف، ونحوهما؛ فافهم.
وقال ابن المُنَيِّر: (وجه المطابقة: أنَّ المصنف أراد أن يبين جواز بناء المسجد داخل السوق؛ لئلا يتخيل متخيل من كونه محجورًا منع الصلاة فيه؛ لأنَّ صلاة ابن عمر كانت في دار تغلق عليهم، فلم يمنع التحجير اتخاذ المسجد فيها، وخص السوق في التَّرجمة؛
(١) في الأصل: (الذي)، ولعل المثبت هو الصواب.