للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

(فأقبل) جواب (بينما)، وفي رواية كتاب (العلم) : (إذ أقبل)، وما ههنا أفصح؛ لقول الأصمعي: (لا يُستَفصَح مجيء «إذ» و «إذا» في جواب «بين»)، وبهذا ظهر فساد قول العجلوني: إنَّ جواب (بين) بـ (إذا) هو المعروف؛ فافهم، (ثلاثة نَفَر)؛ بالتحريك، ولم يُسَم واحد من الثلاثة؛ أي: ثلاثة رجال من الطريق، فدخلوا المسجد، كما في حديث أنس: (فإذا ثلاثة نفر مارين)، وللأصيلي: (فأقبل نفر ثلاثة)، (فأقبل اثنان) أي: من النفر الثلاثة (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: إلى مجلسه، (وذهب واحد)؛ أي: منهم، وهو الثالث عطف على قوله: (فأقبل)؛ أي: مضى في طريقه منفردًا، (فأَمَّا)؛ بفتح الهمزة، وتشديد الميم: تفصيلية، والفاء تفصيحية؛ لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر؛ يعني: فإذا أردت جزاء كل واحد منهم؛ فأمَّا (أحدهما)؛ أي: أحد اللذين أقبلا إليه عليه السَّلام، وهو بالرفع مبتدأ، وخبره قوله: (فرأى فُرجة)؛ بِضَمِّ الفاء وفتحها، لغتان؛ وهي الخلل بين الشيئين، وفرق بينهما، فالضم: اسم للخلل بين الشيئين، والفتح: للتفصي من الهم، وهذا هو المشهور؛ والمعنى: أنَّه رأى خللًا في الحلقة، كما ثبت للأصيلي والكشميهني، (فجلس)؛ أي: في الفُرجة، وهو عطف على (رأى)، وفيه المطابقة للتَّرجمة، وأتى بالفاء في (فرأى)؛ لتَضَمُّن (أَمَّا) معنى الشرط.

(وأمَّا الآخَر)؛ بالمد وفتح الخاء المعجمة؛ أي: المغاير للأول، وهو الثاني من اللذين أقبلا؛ (فجلس خلفهم)؛ أي: خلف القوم، وكأنَّه لم يجد هناك فرجة يجلس فيها، وهو منصوب على الظرفية.

(وأمَّا الآخر)؛ بالمد وفتح الخاء المعجمة أيضًا، وهو الثالث الذي ذهب وحده؛ (فأدبر ذاهبًا)، من الإدبار؛ أي: التولي؛ يعني: ولَّى منصرفًا مستمرًا في ذهابه ولم يرجع، و (ذاهبًا) منصوب على الحال، (فلما فَرَغَ)؛ بفتح الفاء والرَّاء والغين المعجمة؛ أي: تمم وكمل (رسول الله صلى الله عليه وسلم) حديثه الذي كان مشتغلًا به من قراءة القرآن وتعليمه، أو العلم والأحكام، أو الذكر وفضله، أو الخطبة ونحوها؛ (قال) جواب (لما) : (ألَا)؛ بالتخفيف، حرف تنبيه، والهمزة يحتمل أن تكون للاستفهام، و (لا) للنَّفي، والأظهر الأول (أخبركم عن الثلاثة) وللأصيلي: (عن النفر الثلاثة)؛ أي: ما جزاؤهم عند الله بما فعلوه، (أمَّا أحدهم)؛ بفتح الهمزة، وتشديد الميم، للتفصيل، و (أحدُهم) : مرفوع على الابتداء، خبره قوله: (فأوى)؛ بهمزة مقصورة؛ أي: التجأ (إلى الله) سبحانه؛ حيث دخل مجلس النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، (فآواه) بهمزة ممدودة (الله إليه)؛ أي: جازاه بنظير فعله بأن ضمه إلى رحمته ورضوانه، ويؤويه يوم القيامة إلى ظل عرشه، فنسبة الإيواء إلى الله تعالى مجاز؛ لاستحالته في حقه تعالى، فالمراد لازمه؛ وهو إرادة إيصال الخير، ويسمى هذا المجاز مجاز المشاكلة والمقابلة.

(وأمَّا الآخَر)؛ بالمد وفتح المعجمة؛ (فاستحى)؛ أي: ترك المزاحمة حياء من النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه؛ حيث جلس خلف القوم، وعند الحاكم: (ومضى الثاني قليلًا، ثم جاء فجلس)، قال إمام الشَّارحين: (والمعنى: أنَّه استحى من الذهاب عن المجلس كما فعل رفيقه الثالث)، (فاستحى الله منه)؛ أي: بأن رحمه ولم يعاقبه، فجازاه بمثل ما فعل، وهذا أيضًا من قبيل المشاكلة؛ لأنَّ الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يُذَم به، وهو محال على الله تعالى، فيكون مجازًا عن ترك العقاب، وحينئذٍ فهو من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم، انتهى.

(وأمَّا الآخر)؛ بالمد، وهو الثالث؛ (فأعرض)؛ أي: ولَّى مدبرًا عن مجلس النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، (فأعرض الله عنه)؛ أي: جازاه بأن سخط عليه وغضب ولم يرض منه، وهذا أيضًا من قبيل المشاكلة؛ لأنَّ الإعراض: هو الالتفات إلى جهة أخرى، وهو غير لائق بالله تعالى، فيكون مجازًا عن السخط والغضب، ويحتمل أنَّ هذا الرجل كان منافقًا، فأطلع اللهُ النَّبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم على أمره وحاله، والمراد في مثل هذه الإطلاقات غاياتها ولوازمها، والعلاقة بين الحقيقي والمجازي اللزوم والقرينة الصَّادقة هو العقل، وفي رواية: (وأمَّا الآخر؛ فاستغنى، فاستغنى الله عنه)، كذا في «عمدة القاري».

وهذا الحديث سبق في باب (من قعد حيث ينتهي به المجلس) من كتاب (العلم)، وفيه المطابقة لما ترجم له خصوصًا في قوله: (فرأى فُرجة في الحلقة)؛ ففيه: جواز الحِلَق في المسجد للعلم، والذكر، وقراءة القرآن، ونحوها.

وفيه: أنَّ للخطيب إذا سئل أن يجيب في حال الخطبة، ولا يضر ذلك في خطبته.

وفيه: سد الفرج في حلق العلم؛ كما في الصلاة وصف القتال.

وفيه: ابتداء العالم جلساءه بالعلم قبل أن يُسأل عنه.

وفيه: الثناء على من زاحم في طلب الخير.

وفيه: مدح الحياء والثناء على صاحبه.

وفيه: ذم الزاهد في العلم وسماعه وأهله.

وفيه: جواز التخطي لسد الخلل ما لم يؤذ (١) أحدًا.

وفيه: أنَّ من سبق إلى موضع من المسجد؛ فهو أحق به، فليس لأحد أن يقيمه عنه.

وفيه: ندب الجلوس حيث ينتهي به المجلس.

وفيه: أنَّ الإنسان إذا فعل قبيحًا؛ جاز أن ينسب إليه، وأنَّ من أعرض عن مجالسة العلماء؛ فإنَّ الله يعرض عنه، انتهى، والله أعلم.

(٨٥) [باب الاستلقاء في المسجد ومد الرجل]

هذا (باب) حكم (الاستلقاء) : مصدر (استلقى)، وثلاثيه: لقى يلقى، فنقل إلى باب الاستفعال، فقيل: استلقى على قفاه، ذكره الجوهري في باب (اللقاء)، وذكر فيه: (واستلقى على قفاه)، ومصدره إذن يكون: استلقاء، وذكره ابن الأثير في باب سلنق (٢) يسلنق ومستلق؛ بالنُّون في الأول، وبالتَّاء في الثاني، والصَّحيح ما ذكره الجوهري، كذا قاله إمام الشَّارحين، (في المسجد) اللَّام فيه للجنس؛ أي: في أيِّ مسجد كان، والجار والمجرور متعلق بـ (الاستلقاء)، وبقوله: (ومدِّ الرِّجل) على سبيل التنازع، أو حال منهما، أو صفة لهما؛ فافهم.

وقوله: (ومدِّ) بالجر عطفًا على (الاستلقاء) (الرِّجل)؛ بكسر الرَّاء؛ أي: في المسجد، والمراد بالحكم الجواز؛ لحديث الباب، وهو صادق بجواز جمعهما فيه، فأحدهما أولى سوى أنَّه يكره مد الرِّجل إلى القبلة عند الإمام الأعظم؛ لأنَّ الله تعالى جعلها قبلة للعبادة، فلا يفعل جهتها مما فيه عدم الأدب، ولا نص في ذلك عن الشَّافعي، غير أنَّه صرح بحرمة مد الرِّجل إلى المصحف، فقاس ابن حجر المكي الكعبة عليه، انتهى.

والفرق بينهما ظاهر كما لا يخفى، وسقط المعطوف للأصيلي، وأبي ذر، وابن عساكر، وثبت عند غيرهم، وكذا في نسخة الصاغاني، وكذا في نسخةٍ عند أبي ذر وابن عساكر، كما في (الفرع).

[حديث: رأى رسول الله مستلقيًا في المسجد]

٤٧٥ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن مَسلَمَة)؛ بفتحات: هو القعنبي المدني، (عن مالك) هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن ابن شهاب) :


(١) في الأصل: (يؤذي).
(٢) في الأصل: (نسلق)، وهو تحريف.

<<  <   >  >>