للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

أي: قواعد دينهم، وهي جملة وقعت حالًا مقدرة؛ لأنَّه لم يكن معلمًا وقت المجيء، وأسند التعليم إليه وإن كان سائلًا؛ لأنَّه لما كان السبب فيه أسنده إليه، أو أنه كان من غرضه.

وللإسماعيلي: «أراد أن تعلموا؛ إذ لم تسألوا»، وفي حديث أبي عامر: «والذي نفس محمد بيده؛ ما جاءني قط إلا وأنا أعرفه إلا أن تكون هذه المرة»، وفي رواية سليمان التيمي: «ما شُبِّه عليَّ منذ أتاني قبل مرتي هذه، وما عرفته حتى ولَّى».

(قال أبو عبد الله) المؤلف: (جعل)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (ذلك) المذكور (كله من الإيمان)؛ أي: من ثمرات الإيمان، وفي الحديث بيان عظم الإخلاص والمراقبة، وفيه أن العالم إذا سئل عما لا يعلمه؛ يقول: لا أدري، ولا ينقص ذلك من جلالته، بل يدل على ورعه، وتقواه، ووفور علمه؛ فإنَّ النبي الأعظم ورد عنه أنه قال: «لا أدري حتى أسأل جبريل»، وجبريل قال: «لا أدري حتى أسأل ميكائيل...» وهكذا إلى رب العزة جل جلاله، ونُقل قول: (لا أدري) عن إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل، وعن الإمام مالك، وعن الإمام الشافعي، وعن الإمام أحمد ابن حنبل رضي الله عنهم، وقال مالك: قول: لا أدري؛ نصف العلم، وتوقف إمامنا الإمام الأعظم في اثنتي عشر مسألة، والإمام مالك في ثماني عشرة مسألة، وهذا من ورعهما وتقواهما، قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: ٣٦]، وفيه: أن الملائكة تَمثَّل بأي صورة شاؤوا من صور بني آدم، كقوله تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: ١٧]، وقد كان جبريل يتمثل بصورة دحية، ولم يره النبي عليه السلام في صورته التي خلق عليها غير مرتين، والله تعالى أعلم.

(٣٨) [باب منه]

هذا (بابٌ) بالتنوين بدون ترجمة؛ لتعلقه بالترجمة السابقة؛ من حيث اشتراكهما في جعل الإيمان دِينًا.

[حديث أبي سفيان مع هرقل]

٥١ - وبه قال: (حدثنا إبراهيم بن حمزة)؛ بالزاي: ابن محمد بن مصعب بن عبد الله بن الزبير بن العوام، القرشي المدني، المتوفى بالمدينة سنة ثلاثين ومئتين (قال: حدثنا إبراهيم بن سعد) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي المدني، (عن صالح) هو ابن كيسان الغفاري، (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري، (عن عبيد الله) بضم العين (ابن عبد الله)؛ بفتحها، ابن عتبة، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة: (أن عبد الله بن عباس أخبره قال: أخبرني) بالإفراد (أبو سفيان)؛ بتثليث أوله، وللأصيلي: (ابن حرب) : (أن هرقل) عظيم الروم (قال له) أي: لأبي سفيان في قصته المذكورة سابقًا: (سألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟)، وفي الرواية السابقة: الاستفهام بالهمزة؛ وهو القياس؛ لأنَّ (أَم) المتصلة مستلزمة للهمزة، وأجيب بأن (أم) هنا منقطعة؛ أي: بل ينقصون، فيكون إضرابًا عن سؤال الزيادة واستفهامًا عن النقصان، على أن جار الله الزمخشري أطلق أنَّها لا تقع إلا بعد الاستفهام؛ فهو أعم من الهمزة؛ فافهم.

(فزعمت) وفي السابقة: (فذكرت) (أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم)؛ أي: أمر الإيمان؛ كما في الرواية السابقة، (وسألتك هل يرتد) وفي السابقة: (أيرتد) بالهمزة (أحد سَخطة)؛ بفتح السين، وفي رواية: (أحد منهم سَخطة)؛ أي: ساخطًا؛ أي: كراهة، منصوب على الحال أو على المفعول لأجله، (لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فزعمت) في السابقة: (فذكرت) (أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يَسخَطه أحد)؛ بفتح المثناة التحتية والخاء، ولم يذكر هذه اللفظة وتاليها في الرواية السابقة.

واقتصر هنا على هذه القطعة؛ لبيان غرضه منها هنا؛ وهي تسمية الدين إيمانًا، ونحو هذا الحذف يسمونه خرمًا، والصحيح جوازه من العالم إذا كان ما تركه غير متعلِّق بما رواه؛ بحيث لا يختل البيان ولا تختلف الدلالة، والظاهر أنَّ الخرم وقع من الزهري لا من المؤلف؛ كما قاله القسطلاني تبعًا للكرماني، واعترضه الشيخ الإمام بدر الدين العيني: بأنه كيف يكون الخرم من الزهري وقد أخرجه البخاري بتمامه بهذا الإسناد في (كتاب الجهاد)؟ وليس الخرم إلَّا من البخاري، انتهى.

قلت: وهو ظاهر؛ لأنَّ عادة البخاري الخرم في بعض الأحاديث؛ لبيان غرضه واستدلاله كما وقع هنا، فلا شكَّ أن الخرم وقع هنا من المؤلف؛ لأنَّ سياقه في (الجهاد) بتمامه بهذا الإسناد؛ دليل واضح على ذلك، والله أعلم.

(٣٩) [باب فضل من استبرأ لدينه]

هذا (باب فضل من استبرأ لدينه)؛ أي: الذي طلب البراءة؛ لأجل دينه من الذم الشرعي أو من الإثم، وإنما قال: (لدينه) ولم يقل: لعرضه؛ لأنَّه لازمٌ له، والاستبراء للدين من الإيمان.

[حديث: الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات]

٥٢ - وبه قال: (حدثنا أبو نعيم)؛ بضم النون: الفضل بن دُكَين؛ بضم الدال المهملة وفتح الكاف؛ وهو لقبه، واسمه عمرو بن حماد، القرشي التيمي الطلحي، المتوفى بالكوفة سنة ثمان أو تسع عشرة ومئتين (قال: حدثنا زكريا) بن أبي زائدة، واسمه خالد بن ميمون، الهمداني الوادعي الكوفي، المتوفى سنة سبع أو تسع وأربعين ومئة (عن عامر) هو الشعبي، وفي «فوائد أبي الهيثم» من طريق يزيد بن هارون عن زكريا قال: (حدثنا الشعبي)، وبهذا حصل الأمن من تدليس زكريا؛ كذا في «عمدة القاري» : أنه (قال: سمعت النعمان بن بشير)؛ بفتح الموحدة وكسر المعجمة: ابن سعْد؛ بسكون العين، الأنصاري الخزرجي، وأمه عمرة بنت رواحة، وهو أول مولود ولد للأنصار بعد الهجرة، المقتول سنة خمس وستين، وقول القابسي وابن معين عن أهل المدينة: لا يصح للنعمان سماع من النبي عليه السلام؛ يرده قوله هنا: (سمعت النعمان بن بشير) (يقول: سمعت رسول الله) وفي رواية: (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، وعند مسلم والإسماعيلي من طريق زكريا: وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه (يقول: الحلالُ بيِّنٌ) مبتدأ وخبر؛ أي: ظاهرٌ بالنظر إلى ما دل عليه بلا شبهة، (والحرامُ بيِّنٌ) مبتدأ وخبره؛ أي: ظاهرٌ بالنظر إلى ما دل عليه بلا شبهة، (وبينهما) خبر، أمورٌ (مشبَّهاتٌ) مبتدؤه؛ بتشديد الموحدة المفتوحة؛ أي: شُبِّهت بغيرها ممَّا لم يتبيَّن به حكمها على التعيين، وفي رواية: (مشتَبِهات)؛ بمثناة فوقية مفتوحة وموحدة مكسورة؛ أي: اكتسبت الشبهة من وجهين متعارضين، بقي ثلاث روايات فيها مذكورة مع معانيها بغاية الإيضاح في «عمدة القاري»؛ فيراجع، (لا يعلمها)؛ أي: لا يعلم حكمها (كثير من الناس) وفي رواية الترمذي: (لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام؟) وقليل من الناس يعلم حكمها؛ وهم العلماء، إما بنص، أو قياس، أو استصحاب، أو غير ذلك، فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة ولم يكن نصٌّ ولا إجماع؛ اجتهد فيه المجتهد وألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي، فإذا ألحقه به؛ صار حلالًا أو حرامًا، وما لم يظهر للمجتهد فيه شيء وهو مشتبه؛ فهل يؤخذ بالحل أو الحرمة أم بالتوقف؟ فيه ثلاثة مذاهب؛ وهي مخرَّجة على الخلاف المعروف في حكم الأشياء قبل ورود الشرع، وفيه أربعة مذاهب:

أحدها: أنه لا يحكم بتحليل ولا تحريم ولا غيرها؛ لأنَّ التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع، وهو الأصح؛ كما قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني، وفي «البدائع» : وهو المختار، وهو قول الشافعية.

الثاني: أن الحكم الحل والإباحة، وهو قول بعض أئمتنا، وهو قول الإمام الكرخي، ومشى عليه الإمام المرغيناني في «الهداية»، والإمام الجليل قاضيخان في «الفتاوى».

الثالث: المنع، وهو قول بعض أصحاب الحديث.

الرابع: الوقف؛ بمعنى: أنه لا بدَّ لها من حكم، لكنا لم نقف عليه بالعقل، وهو قول بعض أئمتنا.

وقد يكون الدليل غير خال عن الاحتمال، فالورع تركه لا سيما على القول: بأن المصيب واحد، وهو المشهور في مذهب إمامنا الإمام الأعظم والإمام مالك، ومنه ثار القول في مذهبهما بمراعاة الخلاف أيضًا، وكذا روي عن الشافعي: أنه كان يراعي الخلاف؛ حيث لا يفوت به سنة عندهم.

فعلى هذا: ساغ لنا إذا سُئِلنا عن مذهبنا أن نقول: مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب مخالفنا خطأ يحتمل الصواب؛ بناء على أن الحق واحد، وقال الشافعي: إن الحق متعدد، فلا يجوز له أن يقول ذلك، والله تعالى أعلم.

(فمَن) موصولة مبتدأ (اتقى) أي: حَذِرَ (المشبَّهات)؛ بالميم وتشديد الموحدة، وفي رواية: (المشْتَبِهات)؛ بالميم والمثناة الفوقية بعد الشين الساكنة، وفي أخرى: (الشُّبهات) بإسقاط الميم، وضم الشين، وبالموحدة: جمع شبهة؛ وهي الالتباس، وأصل (اتقى) : اوتقى؛ من وقى وقاية، قلبت الواو تاء، وأدغمت التاء في التاء، صلة الموصول، وقوله: (استبرأ) خبره، وفي رواية: (فقد استبرأ) بالهمز بوزن (استفعل) (لدينه) المتعلق بخالقه، (وعرضه) المتعلق بالخلق؛ أي: حصل البراءة لدينه من الالتباس، ولعرضه من طعن الناس، وفي رواية: (لعرضه ودينه)، (ومَن) شرطية، وفعل الشرط قوله: (وقع في الشُّبهات) التي أشبهت الحرام من وجه والحلال من آخر؛ بمعنى: التبس أمرها، وفي رواية: (المشْتَبِهات)؛ بالميم، وسكون الشين، وفوقية قبل الموحدة، وفي أخرى: (المشبَّهات)؛ بالميم والموحدة المشددة، وجواب [من] محذوف في جميع النسخ، وثبت

<<  <   >  >>