للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

الثلاثة الأكف لا تكفي لسائر الجسد عادة، كذا في «عمدة القاري» (على سائر جسده)؛ أي: باقيه، فـ (سائر) بمعنى: باقٍ؛ لأنَّ الرأس من الجسد، قال جابر بن عبد الله: (فقال لي الحسن)؛ أي: ابن محمَّد المذكور: (إنَّي رجل كثير الشَّعَر)؛ بالتحريك؛ أي: كثير شعر الرأس، فلا يكفيني هذا القدر من الماء، (فقلت) من كلام جابر للحسن: (كان النَّبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم أكثر منك شعَرًا)؛ بفتح العين المهملة، أفصح من سكونها؛ يعني: وقد كفاه هذا القدر من الماء، فالزيادة على ذلك خلاف السنة، ومنشؤه وسوسة الشيطان، فلا يلتفت إليه.

قال في «عمدة القاري» : (ومما يستنبط من الحديث جواز الاكتفاء بثلاث غرف على الرأس وإن كان كثير الشعر، وفيه: تقديم ذلك على إفاضة الماء على جسده، وفيه: الحث على السؤال في أمر الدين من العلماء، وفيه: وجوب الجواب عند العلم به، وفيه: دلالة على ملازمة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم على ثلاث أكف في الغسل؛ لأنَّ لفظة «كان» تدل على الاستمرار، والله أعلم) انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

(٥) [باب الغسل مرةً واحدةً]

هذا (باب) حكم (الغُسل) بضمِّ الغين العجمة (مرة واحدة) : في الجنابة، (مرة) : منصوب على الحال، أو المصدرية، أو الظرفية، وهذا بناء على عدم تنوين (باب)، فإنَّ نونته؛ فـ (الغسل) مبتدأ، و (مرة) خبره بالرفع أو النصب، والمراد بالمرة الواحدة: الاقتصار في الغسل على المرة الواحدة، فإنَّ الفرض لا يقتضي التكرار، وقد حصل المقصود؛ وهو تعميم ما أمكن غسله من الجسد؛ كالمضمضة، والاستنشاق، والسرَّة، وداخل القلفة، ونحوها.

[حديث: وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم ماءً للغسل فغسل يديه مرتين]

٢٥٧ - وبالسَّند قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل (١))) : هو التَّبُوذكي، وفي رواية: الاقتصار على (موسى) فقط (قال: حدثنا عبد الواحد) : هو ابن زياد البصري، (عن الأعمش) : هو سليمان بن مهران، (عن سالم)؛ بالسين المهملة (بن أبي الجَعْد)؛ بفتح الجيم، وسكون العين المهملة، (عن كُريب)؛ بضمِّ الكاف: مولى ابن عباس، (عن ابن عباس) رضي الله عنهماأنَّه (قال: قالت مَيمُونة)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية: بنت الحارث زوج النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وخالة ابن عباس: (وضعت للنبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم ماء للغُسل)؛ بضمِّ الغين المعجمة من الجنابة؛ أي: لأجل أن يغتسل فيه منها، (فغسل يديه)؛ بالتثنية للكشميهني، وفي رواية المستملي والحَمُّوي: بالإفراد (مرتين أو ثلاثًا)؛ بالشك، والظاهر أنَّه من ميمونة، ولذا قال الكرماني: (الشك من ميمونة)، وزعم ابن حجر أنَّ الشك من الأعمش؛ كما سيأتي من رواية أبي عَوانة عنه، وغفل الكرماني، فقال: (الشك من ميمونة).

واعترضه إمام الشارحين فقال: (قلت: هذا مرَّ في باب «من أفرغ بيمينه على شماله في الغسل»، ولفظه: «فغسلها مرة أو مرتين»، قال سليمان: «لا أدري أذكر الثانية أم لا؟»، وسليمان هو الأعمش، ولكن الشك ههنا بين مرتين أو ثلاثًا، وهناك بين مرة أو مرتين، فعلى هذا: تعين الشك من الأعمش، ولكن موضعه مختلف) انتهى.

قلت: ولما كان موضعه مختلفًا؛ تبين أنَّ الشك ليس من الأعمش ههنا، أمَّا هناك؛ فالشك منه؛ كما قال صاحب «عمدة القاري» على أنَّ هذا الحديث ليس له تعلق بالحديث الذي سبق من رواية أبي عَوانة، وفي الحديث ههنا التصريح بمرتين أو ثلاث (٢)، وهناك بالمرة أو المرتين، ولا شك أنَّ بين الحديثين اختلافًا (٣)، فدل ذلك على أنَّ الشك ليس من الأعمش، وتعين أنَّ الشك من ميمونة، وهو ظاهر السياق؛ فافهم.

وبهذا ظهر أنَّ الكرماني لم يغفل، بل الغافل الذاهل ابن حجر، فإنَّه لم يفرق بين الحديثين مع اختلاف ألفاظهما وتباينهما في اللفظ والمعنى، وليس هذا شأن أهل الحديث؛ فليحفظ.

(ثم أفرغ على شِماله)؛ بكسر الشين المعجمة، ضد اليمين، وبالفتح: ضد الجنوب، (فغسل مذاكيره) : هو جمع ذكر على خلاف القياس؛ كأنَّهم فرقوا بين الذكر الذي هو خلاف الأنثى، والذكر الذي هو الفرج في الجمع.

وقال الأخفش: (هو جمع لا واحد له؛ كأبابيل).

قلت: قيل: إنَّ الأبابيل جمع أبول؛ كعجاجيل جمع عجول، وقيل: هو جمع مذكار، ولكنهم لم يستعملوه وتركوه، والنكتة في ذكره بلفظ الجمع الإشارة إلى تعميم غسل الخصيتين وحواليهما؛ كأنَّه جعل كل جزء من هذا المجموع كذكر في حكم الغسل، كذا قاله صاحب «عمدة القاري»؛ فافهم.

(ثم مسح) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (يده) بالإفراد؛ أي: الشمال (بالأرض) مبالغة في إزالة ما عساه يكون عليها، وفيه حذف؛ أي: ثم غسلها، كما دلت عليه الروايات السابقة، ويأتي التصريح به في باب (المضمضة والاستنشاق)، وعند مسلم في هذا الحديث: (فغسل فرجه وما أصابه، ثم مسح يده بالحائط أو الأرض، ثم غسلها)، (ثم مضمض واستنشق) : كل واحدة بثلاث غرفات، فلو فعلهما مرة واحدة؛ سقط الفرض وترك السنة، ويكفي الشرب عبًّا عن المضمضة لا مصًّا؛ لأنَّ المجَّ -وهو طرح الماء من الفم- ليس بشرط على الصحيح، وقيل: إنَّه شرط، وأمَّا الشرب مصًّا؛ فلا يجزئه، كما صرَّح به في «البحر».

ولو كان سنُّه مجوفًا، أو بين أسنانه طعام، أو درن رطب؛ يجزئه؛ لأنَّ الماء لطيف يصل إلى كل موضع غالبًا، كذا في «التجنيس».

وذكر الإمام الحسامي: أنَّه إذا كان في أسنانه كوَّات فيها طعام؛ لا يجزئه ما لم يخرجه، ويجري عليها الماء.

وفي «المعراج» : (الأصح أنَّه يجزئه).

قال في «البحر» : (فالاحتياط أن يخرجه) انتهى.

ويفترض غسل ما تحت الدرن الذي في الأنف، قال في «فتح القدير» : (والدرن اليابس في الأنف؛ كالخبز الممضوغ والعجين يمنع) انتهى؛ أي: إيصال الماء إلى ما تحته؛ فلا بد من إخراجه، وهذا غير الدرن المجتمع تحت الأظفار، وقيد باليابس لما في «شرح الدرر» : أنَّ الدرن الرطب اختلف فيه المشايخ، كما في «القنية» عن «المحيط»، والمعتمد إخراجه أيضًا؛ لأنَّه لزج غالبًا لا يصل الماء إلى ما تحته، ولو نسي المضمضة والاستنشاق في الغسل وصلى، ثم تذكر؛ فلو صلى نفلًا؛ لم يعد؛ لعدم صحة شروعه، وأمَّا لو صلى فرضًا؛ فيلزمه قضاؤه؛ لعدم انعقاده، كذا في «منهل الطلاب».

(وغسل وجهه) : وإن اكتحل بكحل نجس؛ لا يجب غسله، كما في «الدر المختار»، لكن في «الخادمي» : (ينبغي غسله زجرًا، ولعدم الحرج؛ للقلة) انتهى.

قلت: بل، لا ينبغي غسله لما قالوا: إذا جرى الدم في العين لا يجب غسله، ودعوى عدم الحرج ممنوعة للضرر؛ لأنَّ العين شحم، فيخشى عليها من الماء انجماده فيقع في العمى، وهو حرج مدفوع بالنص، كذا في «منهل الطلاب».

(و) غسل (يديه)؛ بالتثنية، وعند ابن ماجه: (فغسل وجهه ثلاثًا، وذراعيه ثلاثًا)، ولم يذكر مسح رأسه هنا، ولا في «ابن ماجه» وغيرها، فدل على أنه لم يتوضأ قبل الغسل، بل هذه كيفية الغسل الفرض حيث إنَّه غسل يديه، وهو كالغسل عند الاستيقاظ من النوم، ثم غسل مذاكيره، وهذا هو الاستنجاء، ثم تمضمض واستنشق؛ لأنَّها من تمام غسل البدن، (ثم أفاض)؛ أي: أسال الماء (على جسده) كله، فيدخل فيه غسل الرأس، والأذنان، واللحية، والسرة، والحاجبان، وغيرها؛ لأنَّ الجسد: الرأس وما نزل عنه إلى القدمين، ويدل لذلك رواية الحسن عن النعمان.

وزعم العجلوني أنَّه لم يذكر مسح الرأس إمَّا للنسيان، وإلا؛ فلا بد من مسحه.

قلت: فقد غفل وذهل؛ لأنَّ المراد من هذا الحديث بيان الغسل الفرض فقط من غير إتيان بسننه بدليل أنَّه ترجم له المؤلف بالغسل مرة، والفرض لا يقتضي التكرار، وللتنبيه على أنَّه إذا فعل الجنب هذه الأفعال من غير تقدم وضوء؛ يجزئه ذلك، وعلى أنَّ المراد تعميم ما يمكن غسله من الجسد بلا حرجٍ؛ فرضٌ، والنسيان من الراوي غير ممكن؛ لأنَّه حجة ثقة عليه نظر رسول الله عليه السلام، فلا يمكن ذهول الراوي عن ذكر شيء من ذلك؛ لأنَّه مأمون في ذلك.

وقوله: (فلا بد من مسحه)؛ ممنوع؛ لأنَّه (٤) في الإفاضة على الجسد مسح وغسل، على أنَّه لم يتوضأ وضوء الصَّلاة حتى يلزم مسح الرأس، على أنَّه ليس في الحديث تصريح بأنَّه توضَّأ وضوء الصَّلاة، بل بيان كيفية فرائض الغسل،


(١) في الأصل: (إسماعيلي)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (ثلاثًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٣) في الأصل: (اختلاف)، وليس بصحيح.
(٤) في الأصل: (لأن)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>