للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

السلام.

الفصل الرابع: فيما يتعلق بالبخاري.

اتفقت الأمة على أنَّه ليس بعد كتاب [الله] أصح من «صحيحي البخاري ومسلم»، واختلف في أرجحية أحدهما على الآخر، فرجح البعض منهم المغاربة: «صحيح مسلم» على «صحيح البخاري»، والجمهور: على ترجيح «البخاري» على «مسلم»؛ لأنَّه أكثر فوائد منه، كما بسطه الإمام بدر الدين العيني قدس سره، قال: (وهو أول كتاب صنف في الحديث الصحيح، وصنفه في ستة عشر سنة ببخارى، وقيل: بمكة، وقيل: في المسجد الحرام، [قال] : وما أدخلتُ فيه حديثًا إلا بعد أن صليت ركعتين، وتيقنت صحته، قال: ويجمع بأنه كان يصنف فيه بمكة، والمدينة، والبصرة، وبخارى) اهـ

الفصل الخامس: في ذكر نسب البخاري.

فهو الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة- بضم الميم، وكسر المعجمة- ابن بَرْدِزْبَه- بفتح الموحدة، وسكون الراء، بعدها دال مهملة مكسورة، فزاي ساكنة، فموحدة مفتوحة، فهاء؛ ومعناه بالفارسية: الزرَّاع- الجُعْفِيُّ؛ بضم الجيم، وسكون العين المهملة، بعدها فاء.

وكان بَرْدِزْبَه فارسيًا على دين قومه، ثم أسلم ولده المغيرة على يد اليمان الجُعفيِّ والي بخارى، فنسب إليه نسبة ولاء، ويمان هذا هو جد المؤلف، وأما إبراهيم بن المغيرة؛ فلم أر من ترجمه.

ولد البخاري يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة من شوال سنة أربع وتسعين ومئة ببُخارى- بضم الموحدة، وفتح الخاء المعجمة، وبعد الألف راء- وهي من أعظم مدن ما وراء النهر، ألف هذا «الجامع»، و «الأدب المفرد»، و «بر الوالدين»، و «التاريخ الكبير»، و «الأوسط»، و «الصغير»، و «خلق أفعال العباد»، وله تأليف آخر، وبالجملة ففضائله كثيرة مشهورة.

بيان شروح هذا الصحيح:

شرحه الإمام أبو سليمان حمد الخطابي، وشرحه أبو جعفر أحمد الداودي، وشرحه المهلب، وشرحه أبو الحسن علي بن خلف المالكي المشهور بابن بطال، قال القسطلاني: (وغالب هذا الشرح في فقه مالك من غير تعرض لموضوع الكتاب) اهـ.

قلت: هذا كلام واهٍ؛ لأنَّ ابن بطال مشهور بالعلوم، فكيف لا يتعرض لموضوع الكتاب.

وشرحه أبو حفص عمر الإشبيلي، وأبو القاسم أحمد التيمي، وعبد الواحد ابن التين السفاقسي، وابن المُنَيِّر، والإمام قطب الدين عبد الكريم الحلبي الحنفي بشرح لطيف فيه نكت لطيفة، ولطائف شريفة، وشرحه الإمام شمس الدين محمد بن يوسف الكرماني بشرح مفيد، قال ابن حجر العسقلاني: (لكن فيه أوهام؛ لأنَّه لم يأخذه إلَّا من الصحف). اهـ

قلت: هذا كلام مردود، فالأوهام تحيط بقليل البضاعة والفهم، وأخذه من الصحف ليس مَعِيبًا؛ لأنَّه أتقن في التثبت خصوصًا في هذا الكتاب.

وشرحه البرماويُّ أخذه من شرح الكرماني، كما قال في أوله.

وشرحه الشيخ برهان الدين الحلبي، وسماه: «التلقيح».

وشرحه ابن حجر العسقلاني، وسماه: «فتح الباري»، أخذه من شرح الحلبي حين كان بحلب، وقد اعتنى به الشافعية، واشتهر عندهم، ومدحوه غاية المدح، ولا غرو، فإن التطويل فيه غاية موجب للسآمة، والأوهام التي فيه لا تحيط بحصر، وقد ألف بعض الفضلاء كتابًا في ذلك سماه: «كشف الحجاب عن العوام فيما وقع في الفتح من الأوهام»، ومن جملة ما طُعن به عليه: أنَّ من عادة البخاري تكرار الأحاديث في مواضع متعددة، وعادة العسقلاني يشرح الحديث في موضع، ثم يتركه في آخر، ويحيل على الأول، وهذا غاية السآمة، ويعتمد في الإعراب على الأقوال الشاذة الضعيفة، ويعتمد على أقوال الشافعي في القول القديم، ويرجح قولًا في باب، ويعتمد غيره في باب آخر، مع ما فيه من التطويل الممل وكثرة الأقوال المخل، وفي ذلك ألف بعض الأفاضل كتابًا سماه: «منهل العليل المطل على ما وقع في الفتح من التطويل المخل».

وشرحه الإمام الكبير علامة الدنيا والفاضل الهمام بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد العيني الحنفي في خمس مجلدات كبار، وسماه: «عمدة القاري»، فإنه شرح نفيس ما سمع بمثاله ونظيره بما اشتمل عليه من الترتيب العجيب، والفوائد البديعة الغريبة، والأبحاث الرائقة العجيبة، شرع في تأليفه في رجب سنة إحدى وعشرين وثمان مئة، وفرغ منه في أواخر الثلث من ليلة السبت خامس شهر جماد الأولى سنة سبع وأربعين وثمان مئة بمدرسته التي أنشأها بحارة كتامة بالقرب من الجامع الأزهر، وما قيل من أنه استمده من «فتح الباري» كان يستعيره ابن خضر؛ فباطل لا أصل له، بل هو كلام الحساد المتعصبين.

ونقل القسطلاني عن بعضهم: أنه ذكر لابن حجر ترجيح شرح البدر العيني بما اشتمل عليه من سياق الحديث بتمامه، وإفراد كل من تراجم الرواة بالكلام، وبيان الأنساب، واللغات، والإعراب، والمعاني، والبيان، واستنباط الأحكام، والأسئلة، والأجوبة، فقال: هذا شيء نقله من شرح لركن الدين. اهـ

قلت: هذا كلام لم يقله كابل فضلًا عن فاضل، وإذا كان يعلم أنه موجود شرح لركن الدين، فلما نقل عنه وحذا حذه لما رأى من البلاغة والتحقيق، فهو كلام باطل لا أصل له.

وما قيل: إن الإمام العيني بعد الجزء الأول لم يتكلم كما تكلم في أول كتابه؛ لأنَّه كان عنده قطعة من شرح ركن الدين؛ فهو كلام باطل؛ لأنَّ عادة البخاري تكرار الأحاديث، فإذا تكلم على حديث بما يتعلق به على عادته، وذكر في محل آخر، فإنه يقتصر الكلام عليه، ويبين المعاني، والمنطوق، والإعراب، وغيره بأخصر مما سبق، وهو لا عيب فيه.

وبالجملة: فإنَّ الشافعية طبعهم ودأبهم القدح في الأئمة الحنفية؛ إما في كتبهم، أو في كلامهم، أو غير ذلك، وذلك من عدم الحياء والأدب (١)، ولم أر أحدًا أطول لسانًا منهم أصلحهم الله تعالى، وأرضى عنهم أئمتنا الأعلام.

ومن حسن شرح البدر العيني أنه يبين في شرحه الخطأ الذي وقع فيه العسقلاني في «الفتح»، ويرده، وألف محمد بن المنصور المعزاوي أجوبة عن الاعتراضات على ابن حجر، قال القسطلاني: (لكنه لم يجب عن أكثرها).

قلت: لما أنها في محل التحقيق والتدقيق.

وقد ألف بعض الفضلاء كتابًا سماه: «السم القاتل العريني للطاعن على الإمام العيني»، وألف بعض آخر كتابًا سماه: «الطوب الرديني في قلب الطاعن على العيني»، وسبب ذلك أنه كان ابن حجر يدرس في الجامع المؤيدي، ففي شهر ربيع الأول سنة أحد وعشرين وثمان مئة ظهر بالمأذنة اعوجاج، فأمروا عليها بالهدم، فهدمت، فأنشأ يقول:

لجامع مولانا المؤيد رونق... منارة تزهو من الحسن والزين

تقول وقد مالت عليهم تمهلوا... فليس على جسمي أضر من العين

فتحدث الناس في ذلك، فبلغ الشيخ الإمام بدر الدين العيني، فعارضه ارتجالًا حيث قصد بالعين التورية إليه، وشبهه بالعين الصائبة، فقال:

منارة كعروس الحسن إذ جليت... وهدمها بقضاء الله والقدر

قالوا: أصيبت بعين قلت: ذا غلط... ما أوجب الهدم إلا خسة الحجر

وبعد ذلك حصل بينهما الاعتراضات والجوابات، وكان السبب من ابن حجر؛ لأنَّه ابتدأ في ذلك، وتكفيه أنه غيبة من الكبائر المنهي عنها، وكان الإمام العيني حسن الخلق، ذي مهابة وجلالة، وقدر وعز، وله تأليف في كل فن؛ الأصول، والفقه، والحديث، والنحو، والشعر، وغيرها رضي الله عنه.

وعلى كلٍّ: فهو شرح عظيم الشأن، كثير الفوائد والمعان، لم يسبق ولا يسبق بنظيره؛ لما حواه من الترتيب العجيب، وليس الخبر كالعيان.

وشرحه الشيخ أحمد القسطلاني، أخذه من شرح البدر العيني، كما يعلم ذلك من تتبع عبارتهما، وفي الحقيقة: كلهم عيال لشرح البدر العيني نفعنا الله به.

وشرحه الإمام العلامة الشهاب أحمد المنيني العثماني، لكنه لم يكمل، وشرحه العلامة الشيخ إسماعيل العجلوني، لكنه لم يكمل أيضًا، فرأيتهما وطالعتهما، فرأيت شرح العجلوني لا فائدة فيه؛ لما اشتمل عليه من الأبحاث التي في غير محلها مع التطويل الممل، والتعطيل المخل، وقد أخذه من شرح القسطلاني، وأما شرح المنيني، فلو كمل؛ لكان مفردًا؛ لما فيه من التحقيق، والتدقيق، والأبحاث المفيدة الرائقة.

وله شروح أخر أضربت عليها؛ خوف الإطالة، وفي هذا القدر كفاية.

أمَّا إسنادي في هذا الكتاب إلى مؤلفه؛ فأرويه من طرق عديدة:

فإني قرأته على الإمام العلامة والمحقق المدقق الفهامة رئيس العلماء الأعلام الملقب بالإمام الأعظم الصغير شيخ الإسلام والمسلمين خاتمة الفقهاء والمحدثين الشيخ عبد الله أفندي بن المرحوم علامة الأقطار والأمصار الشيخ سعيد الحلبي الأصل، الدمشقي الموطن، الحنفي.

وقرأته على الإمام العلامة المحقق مفتي الشافعية السيد نور الدين عمر أفندي الغزي العامري.

وقرأته على الإمام العلامة حاوي المعقول والمنقول الشيخ حسن الشطي الحنبلي.

وقرأته على الإمام العلامة فقيه الزمان، ومحقق مذهب النعمان، الفاضل الكامل، ذي (٢) التحارير الفائقة، والفوائد الرائقة، السيد أحمد أفندي بن المرحوم العلامة السيد عمر أفندي الإسلابولي الأصل، الدِّمشقي الموطن، الحنفي، شارح «الدرر والغرر».

وقرأته على الإمام العلامة المدقق الفهامة الشيخ سليم بن الشيخ ياسين بن الإمام العلامة الكبير محرر مذهب محمد بن إدريس الشيخ حامد العطار.


(١) رحم الله المؤلف وعفا عنه، فقد وقع فيما رمى به الأئمة الشافعية رضوان الله عليهم أجمعين.
(٢) في الأصل: (ذوي).

<<  <   >  >>