للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

بيمينه)؛ لرفع قدر اليمين، ولأنَّه لو باشر النجاسة بها؛ يتذكر عند تناوله الطعام، وما باشرت يمينه من النجاسة فينفر طبعه من ذلك، والنهي للتنزيه عند الجمهور خلافًا لأهل الظاهر، ولبعض الحنابلة، ولبعض الشافعية، كما مر.

والحديث يقتضي النهي عن مس الذكر باليمين حالة البول فقط، فكيف الحكم في غير هذه الحالة؟

وأجيب: بأنَّه روى أبو داود بسند صحيح من حديث عائشة قالت: (كانت يد رسول الله عليه السلام اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذًى)، وأخرجه بقيَّة الجماعة أيضًا، وروي أيضًا من حديث حفصة زوج النَّبيِّ الأعظم عليه السلام قالت: (كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه، ويجعل شماله لما سوى ذلك)، فظاهر هذا: يدلُّ على عموم الحكم على أنَّه قد روي النَّهي عن مسِّه باليمين مطلقًا غير مقيَّد بحالة البول، فمن النَّاس من أخذ بهذا المطلق، ويدلُّ له حديث الباب الآتي بعده فيشمل الُقُبل والدبر، ومنهم من حمله على الخاص بعد أن نظر في الروايتين، هل هما حديثان أو حديث واحد؟ فإن كانا حديثًا واحدًا مخرجه واحد اختلفت فيه الرواة؛ فينبغي حمل المطلق على المقيَّد؛ لأنَّها تكون زيادة من عدلٍ في حديث واحد، فيقبل، وإن كانا حديثين؛ فالأمر في حكم الإطلاق والتقييد على ما ذكر؛ فافهم.

(ولا يتمسح)؛ أي: لا يستنجي من التفعُّل، أشار به إلى أنَّه لا يتكلَّف المسح (بيمينه)؛ لأنَّ باب التفعل للتكليف غالبًا والنهي فيه للتنزيه عند الجمهور، كما ذكرنا، واستشكل أنه متى استجمر بيساره؛ استلزم مس ذكره بيمينه، ومتى أمسه بيساره؛ استلزم استجماره بيمينه، وكلاهما قد شمله النهي، وأجاب في «البحر الرائق» : بأنَّ الصواب أن يأخذ الذكر بشماله فيمرُّه على جدار أو موضع نائٍ من الأرض، وإن تعذر يقعد ويمسك الحجر بين عقبيه فيمرُّ العضو عليه بشماله، فإن تعذَّر يأخذ الحجر بيمينه ولا يحركه ويمر العضو عليه بشماله.

قال الإمام نجم الدين: وفيما أشار إليه من إمساك الحجر بعقبه حرج وتكلف، بل يستنجي بجدار إن أمكن، وإلا؛ فيأخذ الحجر بيمينه ويستنجي بيساره، انتهى.

وفي «المجتبى» عن «النظم» : أنه يستنجي بثلاثة أمدار، فإن لم يجد؛ فبالأحجار، فإن لم يجد؛ فبثلاثة أكف من تراب لا بما سواها من الخرقة والقطن ونحوهما؛ لأنَّه ورد في الحديث أنه يورث الفقر، انتهى، واعترضه في «الحلية» بأنه مخالف لعامَّة كتب المذهب من أنَّ المكروه المتقوم لا مطلقًا، انتهى، وما أجاب به ابن حجر عن الإشكال؛ فليس بجيد؛ فافهم.

قال في «غاية البيان» : فإن استنجى باليمين؛ يجزئه ويكره.

قال في «البحر» : والتحقيق أنَّ الاستنجاء لا يكون إلا سنة فينبغي أنَّه إذا استنجى بالمنهي عنه ألَّا يكون مقيمًا للسُّنة أصلًا، فقولهم بالإجزاء مع الكراهة تسامح؛ لأنَّ مثل هذه العبارة تستعمل في الواجب وليس به هنا، انتهى.

واعترضه في «النهر» بأنَّ المسنون هو الإزالة، ونحو الحجر لم يقصد لذاته، بل لأنَّه مزيل، غاية الأمر أنَّ الإزالة بهذا الخاص منهي عنها، وذا لا ينفي كونه مزيلًا، ونظيره لو صلَّى السُّنة في أرض مغصوبة؛ كان آتيًا بها مع ارتكاب المنهي عنه، انتهى.

وأصل الجواب مصرح به في «الكافي» حيث قال: لأنَّ النهي في غيره فلا ينفي مشروعيته، كما لو توضأ بماء مغصوب، أو استنجى بحجر مغصوب.

قال شيخ شيخنا: والظاهر: أنه أراد بالمشروعية الصحة، لكن يقال عليه: إنَّ المقصود من السنة الثواب، وهو منافٍ للنهي، بخلاف الفرض، فإنَّه مع النهي يحصل به سقوط المطالبة، كمن توضأ بماء مغصوب؛ فإنَّه يسقط به الفرض وإن أثم، بخلاف ما إذا جدَّد به الوضوء؛ فالظاهر: أنَّه وإن صحَّ لم يكن له ثواب، انتهى.

قلت: وفيه نظر لما قدمنا أنَّ الاستنجاء المسنون: هو إزالة القذر والتنقية، وهو بالمنهي عنه قد أدَّى السنة فيثاب عليه بلا ريب، لكن عليه كراهة من جهة أنَّه قد فعل المنهي عنه، كما إذا توضأ بماء مغصوب؛ فإنَّه يكون آتيًا بالفرض مثابًا عليه من جهة أنَّه قد فعل المأمور به وهو الوضوء، وإن كان عليه كراهة من حيث إنَّه قد فعل المنهي عنه، فالنهي إنَّما هو في معنًى في غيره لا في ذاته، ولا فرق بين الفرض والسُّنة، لا يقال: إن المقصود من السنة: الثواب؛ وهو مناف للنهي؛ لأنَّا نقول: الجهة فيه منفكَّة، فإن فعل السنة؛ يثاب عليها في ذاتها مع قطع النظر عن كونه آتيًا بشيء منهي عنه، وعليه كراهة من حيث إنه أتى بشيء منهي عنه فكيف يقال: إنه لم يكن له ثواب، بل هو مثاب على فعل المأمور به وإن كان ملامًا على فعل المنهي عنه، وكذا تجديد الوضوء يثاب عليه من جهة أنَّه قد فعل قربة، ملامٌ من حيث إنه قد فعل المنهي عنه؛ وهو تجديد الوضوء بماء مغصوب وفضاء واسع، كذا في «منهل الطلاب».

ويستثنى من النهي بالاستنجاء باليمين ما لو كان في يده اليسرى عذر يمنع الاستنجاء بها، جاز أن يستنجي بيمينه من غير كراهة، كما في «البحر»، و «الجوهرة»، و «شرح الهاملية»، وكذا لو كانت يده اليسرى مشلولة ولم يجد ماءً جاريًا ولا صابًّا؛ ترك الماء، كما في «الدر المختار»، فإن وجد ماءًا جاريًا؛ دخل فيه وغسل باليمين، أو أخذ منه باليمين وغسل، ثم غسلها في الجاري، أو أخذ ماءًا آخر غسل به إلى أن يطهر، ومثل الجاري الراكد الكثير، كذا في «الحلية»، وقال في «الإمداد» : فإن وجد صابًّا كخادمٍ وزوجةٍ؛ لا يتركه، انتهى، قلت: وهو خلاف ما يقتضيه الاستثناء؛ فإنَّه يفيد عدم الكراهة باليمين حال العذر، وهو كذلك، فإن حصل عذر باليمين؛ سقط عنه الاستنجاء، كما صرح به في «حواشي الحموي» عن «المحيط»، والمعتمد أن القادر بقدرة غيره لا يعد قادرًا عند الإمام الأعظم، وعليه الفتوى، خلافًا لصاحبيه.

ولو كانت يداه مشلولتين؛ سقط أصلًا، كما في «الدر»؛ أي: سقط عنه الاستنجاء بالماء والحجر جميعًا؛ كمريض، لما في «الفتاوى التاترخانية» : الرجل المريض إذا لم تكن له امرأة ولا أمة وله ابن أو أخ وهو لا يقدر على الوضوء؛ قال: يوضِّئه ابنه أو أخوه غير الاستنجاء، فإنه لا يمس فرجه، ويسقط عنه، والمرأة المريضة إذا لم يكن لها زوج وهي لا تقدر على الوضوء ولها بنت أو أخت؛ توضِّئها ويسقط عنها الاستنجاء، انتهى، ولا يخفى أن هذا التفصيل يجري فيمن شلت يداه؛ لأنَّه في حكم المريض، كما في «منهل الطلاب».

(١٩) [بابٌ: لا يمسك ذكره بيمينه إذا بال]

هذا (بابٌ) بالتنوين: (لا يمسكُ) : روي بالرفع على أنَّ (لا) نافية، وبالجزم على أنها ناهية، وفي رواية: (لا يمس) (ذكره إذا بال)، واستشكل بأن حكم هذه الترجمة قد سبق في الحديث السابق، فما فائدة هذه الترجمة؟، وأجيب: بأنَّ فائدتها اختلاف الإسناد مع التنبيه على ما وقع في لفظ المتن من الخلاف، وبيان اختلاف الأحكام من أنَّه في الباب الأول بيان كراهة الاستنجاء باليمين، وهنا على بيان كراهة مس الذكر عند البول، لا يقال: إنَّ النهي المطلق محمول على المقيد؛ لأنَّا نقول: الحاصل من معنى الحديثين واحد، وكلاهما مقيد، فكلاهما في الحقيقة واحد، والمفهوم

<<  <   >  >>