للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

والزيادة من الثقة مقبولة، قال العجلوني: (فيُحْمَلُ قول أبي داود أيضًا: «الروايات الصحيحة عن عثمان ليس فيها عدد لمسح الرأس»؛ أي: في غير هذين الطريقين (١)) انتهى.

قلت: وهذا تخصيص بلا مخصص، فإنَّ قولَ أبي داود: (الروايات...) إلخ لفظٌ عام في جميع الروايات، والحمل لا بدَّ له من تقييد وقرينة تدل عليه ولم يوجد، فالحمل غير صحيح.

وقال الكرماني: الدليل على التعدد القياس على سائر الأعضاء، انتهى.

وأجيب: بأن المسح مبني على التخفيف بخلاف الغسل، ولو شرع التكرار؛ لصار بصورة المغسول، وقد ثبت الإجماع على كراهة غسل الرأس بدلًا عن المسح، وإن كان مجزئًا؛ لمخالفته النص.

وأجيب: بأنَّ الخفة تقتضي عدم الاستيعاب، وهو مشروع بالاتفاق، فليكن العدد كذلك، قاله القسطلاني والعجلوني، ورده ابن حجر في «الفتح» بالحديث المشهور الذي رواه ابن خزيمة وغيره وصححوه من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص في صفة الوضوء؛ حيث قال النبي عليه السلام بعد أن فرغ من الوضوء: «من زاد على هذا؛ فقد أساء وظلم»؛ فإن في رواية سعيد بن منصور التصريح بأنه مسح رأسه مرة واحدة، فدل ذلك على أن الزيادة في مسح الرأس على المرة الواحدة غير مستحبة، ويُحْمَلُ ما ورد من الأحاديث في تثليث المسح -إن صحَّت- على إرادة الاستيعاب بالمسح لا أنَّها مسحات مستقلة لجميع الرأس؛ جمعًا بين هذه الأدلة، انتهى، ويفهم من قوله: (إن صحت) على أنها ضعيفة، وهو كذلك، كما قاله الحفاظ الثقات، وقال في «عمدة القاري» : (وفيه نظر؛ لأنَّ الاستيعاب بالمسح لا يتوقَّف على العدد؛ أي: بل إنه يحصل بمرة واحدة، ولو لم يحصل بها؛ لما ورد في الأحاديث الصحاح، وإن كان نص في بعض الروايات على التثليث، لكنه قد أنكرها الحفاظ الثقات، ولئن سُلِّم؛ فهي ضعيفة لا يعوَّل عليها)، ثم قال: (والصواب أن يقال: الحديث الذي فيه المسح ثلاثًا لا يقاوم الأحاديث التي فيها المسح مرة واحدة) انتهى؛ أي: لقوتها وأرجحيتها وضعف الحديث، ولا ريب أن الصحيح لا يقاوم الضعيف، ولهذا قال الترمذي: (والعمل على أن المسح مرة واحدة عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله عليه السلام ومن بعدهم).

وقال أبو عمر (٢) بن عبد البر: (كلهم يقول: مسح الرأس مسحة واحدة)، وقال الكرماني: (ودلالة الحديث على الترجمة من حيث إنه أطلق «مسح برأسه» من غير تقييد بعدد، ومن حيث حمله على الرواية السابقة، وعلى الأخيرة المصرَّح فيها بـ «مرة»، وهي ظاهرة في الوحدة، ولعل اختيار المؤلف رواية سليمان؛ لأنَّه ساق الكلام فيها لهذا الغرض دون رواية وهيب) انتهى.

قال العجلوني: (وفيه تأمل، ولم يذكر وجهه)، قلت: ولعل وجهه أنه لم يَظْهَرْ فرقٌ بين الروايتين من حيث السند إلا أن الرواية الأولى عن موسى وهنا عن سليمان، وكل واحد منهما شيخ للمؤلف من غير فرق بينهما، وسياق الكلام هنا عن سليمان لا يدل على اختيار المؤلف لها؛ لأنَّ عادة المؤلف تكرار الحديث؛ لأجل التراجم بروايات مختلفة؛ للتنبيه على كثرة أشياخه لا أنه اختار رواية سليمان على رواية وهيب؛ فافهم، والله تعالى أعلم.

(٤٣) [باب وضوء الرجل مع امرأته وفضل وضوء المرأة]

هذا (باب) جواز (وُضوء)؛ بضم الواو؛ لأنَّ المراد منه الفعل (الرجل مع امرأته) من إناء واحد، وفي رواية: (مع المرأة)، وهو أعمُّ من أن تكون امرأته أو غيرها، (وفضلِ)؛ بالجر؛ عطفًا على قوله: (وضوء الرجل) (وَضوء)؛ بفتح الواو؛ لأنَّ المراد به: الماء الفاضل في الإناء بعد فراغ (المرأة) من الوضوء وحدها، أو بالرفع، والظرف لغو للمصدر لا حال من (الرجل).

(وتوضأ عمر)؛ أي: ابن الخطاب رضي الله عنه، مما رواه ابن أبي شيبة والدارقطني بلفظ: كان عمر يُسَخَّنُ له ماء في حميم ثم يغتسل منه، قال الدارقطني: (إسناده صحيح)، ووصله أيضًا سعيد بن منصور، وعبد الرزاق، وغيرهما بإسناد صحيح بلفظ: (أن عمر رضي الله عنه كان يتوضأ بالحَميم ويغتسل منه)، وهو بفتح الحاء المهملة، وهو الماء المسخَّن، أو الماء السخين؛ (فعيل) بمعنى: (مفعول)، ومنه سُمِّي الحمَّام حمَّامًا؛ لإسخانه من دخله، والمحموم محمومًا؛ لسخونة جسده.

وروى الطبراني (٣) في «الكبير»، والحسن بن سفيان في «مسنده»، وأبو نعيم في «المعرفة»، والمشهور من طريق الأسلع بن شريك قال: (كنت أرحل ناقة رسول الله عليه السلام، فأصابتني جنابة في ليلة باردة، وأراد رسول الله عليه السلام أن يرحل، وأنا جنب، وخشيت أن اغتسل بالماء البارد، فأموت أو أمرض، فأمرت رجلًا من الأنصار يرحلها، ووضعت أحجارًا فأسخنت بها ماء، فاغتسلت، ثم لحقت رسول الله عليه السلام، فذكرت له فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} إلى قوله: {غَفُورًا} [النساء: ٤٣])، وفي سنده الهيثم بن زريق الراوي له عن أبيه، عن الأسلع مجهولان، والعلاء بن الفضل راويته (٤) عن الهيثم فيه ضعف، وقيل: إنه تفرَّد به، وقد روي ذلك عن جماعة من الصحابة منهم عمر، كما ذكره المؤلف، ومنهم: سلمة بن الأكوع: (أنَّه كان يسخن الماء يتوضأ به)، رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، ومنهم: ابن عباس أنه قال: (إنا نتوضأ بالحميم، وقد أغلي على النار)، رواه ابن أبي سلمة في «مصنفه»، ومنهم: ابن عمر (كان يتوضأ بالحميم)، رواه عبد الرزاق، قال ابن المنذر: (وأجمع أهل العراق وأهل الحجاز جميعًا على الوضوء بالماء المسخن غير مجاهد؛ فإنه كرهه، رواه عنه ليث بن أبي سليم).

قلت: نعم يُكْرَهُ استعماله إن كان شديد السخونة كشديد البرودة؛ لأنَّه يمنع إسباغ الوضوء والغسل.

قال في «عمدة القاري» : (هذا الأثر المعلق ليس له مطابقة للترجمة أصلًا)، وهذا ظاهر، كما ترى، وتبعه القسطلاني حيث قال: (ولم تظهر لي مناسبته للترجمة)، فلا يخفى عدم مناسبته.

وقال ابن حجر: (مناسبته للترجمة من جهة أن الغالب أنَّ أهل الرجل تَبَعٌ له فيما يفعل، فأشار المؤلف إلى الرد على من منع المرأة أن تتطهر بفضل الرجل؛ لأنَّ الظاهر: أن امرأة عمر كانت تغتسل بفضله أو معه، فناسب قوله: «وضوء الرجل مع امرأته في إناء واحد»).

قال في «عمدة القاري» : (من له ذوق أو إدراك لا يقول هذا الكلام البعيد، فمراده من قوله: «إنَّ أهل الرجل تبع له فيما يفعل» في كلِّ الأشياء أو في بعضها، فإن كان الأول؛ فلا نسلم ذلك، وإن كان الثاني؛ فيجب التعيين، وقوله: «لأنَّ الظاهر...» إلى آخره: أيُّ ظاهر دل على هذا؟ وهل هذا إلا حدس وتخمين) انتهى.

قلت: على أن ما ذكره في وجه المطابقة خلط فاحش من حيث إنه جعل قوله: (وتوضأ عمر...) إلخ أثر واحد، والحال أنَّهما أثران، كما يأتي التنبيه عليه، وقد خبط وخلط العجلوني أيضا هنا، كما ستقف على عبارته؛ فافهم.

وقال الكرماني: (ووجه مناسبته للترجمة من حيث إن غرض المؤلف في هذا الكتاب ليس منحصرًا في ذكر متون الأحاديث، بل يريد الإفادة، وهي أعم من ذلك، ولهذا يذكر آثار الصحابة، وفتاوى السلف، وأقوال العلماء، ومعاني اللغات وغيرها، فقصده هنا بيان التوضؤ بالماء المسخن بلا كراهة؛ دفعًا لما قاله مجاهد).

وردَّه في «عمدة القاري» بأن هذا عجيب وغريب، وكيف يطابق هذا الكلام، وقد وضع أبوابًا مترجمة، ولا بدَّ من رعاية التطابق بين تلك الأبواب وبين الآثار التي يذكرها فيها، وإلا فيعدُّ هذا من التخابيط، وكونه يذكر فتاوى السلف، وأقوال العلماء، ومعاني اللغات لا يدل على ترك المناسبات والمطابقات، وهذه الأشياء أيضًا إذا ذكرت بلا مناسبة؛ يكون الترتيب مخبطًا، فلو ذكر شخص مسألة في الصلاة مثلًا في كتاب «الطهارة» أو مسألة من كتاب «الطهارة» في كتاب «التطليق» (٥) أو «العتاق» مثلًا؛ نسب إلى التخبيط)؛ فافهم.

(و) وتوضأ عمر أيضًا (من بيت نصرانية)، فهو عطف على قوله: (بالحميم)، وهذا أثر ثان وصله عبد الرزاق، والشافعي، وغيرهما، عن سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن أبيه: (أن عمر توضأ من ماء نصرانية)،


(١) في الأصل: (الطريق).
(٢) في الأصل: (عمرو)، وليس بصحيح.
(٣) في الأصل: (الطبري).
(٤) في الأصل: (روايته)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٥) في الأصل: (التعليق)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>