للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

مَن فِي النَّارِ...}؛ الآية [النحل: ٨]، قال صاحب «الكشاف» : (هي أرض الشام، جعلها الله بالبركات موسومة، وبالفضائل موصوفة، وقال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: ٧١]، وحقت أن تكون كذلك؛ لأنَّها مبعث الأنبياء عليهم السلام، ومهبط الوحي إليهم وكفايتهم أحياء وأمواتًا، وما من نبي إلا منها، أو هاجر إليها)، وقال علي الصديق الأصغر: (طوبى لمن له فيها مسكنًا)، وتمامه في «محاسن الشام».

وقال إمام الشَّارحين: (الشام: هو الإقليم المشهور، يذكر ويؤنث، ويقال مهموزًا ومسهلًا، وسميت بسام بن نوح عليه السَّلام؛ لأنَّه أول من نزلها، فجعلت السين شينًا معجمة؛ تفسيرًا للفظ الأعجمي، وقيل: سميت بذلك؛ لكثرة قراها، وتداني بعضها من بعض، فشبهت بالشامات) انتهى.

(فوجدنا مَراحِيض)؛ بفتح الميم، وكسر الحاء المهملة، والضاد المعجمة، جمع مِرحاض؛ بكسر الميم: وهو البيت (بُنيت)؛ بضم الموحدة أوله، واتخذت لأجل قضاء الحاجة للإنسان؛ أي: التغوط (قِبَل) بكسر القاف، وفتح الموحدة؛ أي: مقابل (القِبلة)؛ بكسر القاف؛ أي: الكعبة، وكان أهل المدينة يتغوطون في البساتين رجالًا ونساءً، فلما بنيت في الشام المراحيض ورآها أبو أيوب رضي الله عنه حين هاجر إليها وبعد مسيره للمدينة؛ أخبر الصحابة بذلك، فاستحسنوها وبنوا مثلها، فهي بدعة حسنة، يدل عليه ما ذكره المؤلف في باب (خروج النساء إلى البراز)، عن عائشة قالت: (إن أزواج النبيِّ الأعظم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصيع -وهو صعيد أفيح- فكان عمر يقول للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: احجب نساءك، فلم يكن رسول الله عليه السَّلام يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبيِّ الأعظم عليه السَّلام ليلة من الليالي عشاء، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر: قد عرفناك يا سودة؛ حرصًا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله الحجاب)، وإنما كن يخرجن لحاجتهن للضرورة من عدم وجود الأخلية في البيوت، فلما اتخذت الكنف فيها؛ منعهن النبيُّ الأعظم عليه السَّلام من الخروج إلا لضرورة شرعية.

وفي حديث ابن عمر في باب (التبرز في البيوت) : (أنه عليه السَّلام كان يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام)، وفي رواية: (مستقبلًا بيت المقدس)، وكل هذه الأحاديث إنَّما وقعت باختلاف الأزمان والأحوال، وإنما المراد على عموم حديث أبي أيوب رضي الله عنه، فإنها لا تصلح أن تكون مخصصة له؛ لأنَّ أبا أيوب لم يلتفت إليها، ولم يحتج بها، بل اقتصر على حديثه؛ لكونه أرجح وأثبت؛ فليحفظ.

(فننحرف)؛ أي: عن جهة القبلة، من الانحراف، وفي رواية: (فنتحرَّف)، من التحرف؛ بتشديد الراء، (ونستغفر الله تعالى)؛ أي: من الاستقبال أو لمن بناها، فإن الاستغفار للمذنبين سنة، وإنما استغفرَ الله تعالى لنفسه لا للناس؛ حيث إنه حين أراد قضاء الحاجة ورأى هذه المراحيض قِبل القبلة وهي منهيٌّ عنها؛ لأنَّ أبا أيوب كان لم ير (١) حديث ابن عمر مخصصًا، وحمل ما رواه هو على العموم، فهذا الاستغفار كان لنفسه لا للناس.

فإن قلت: الغالط والساهي لم يفعل إثمًا، فلا حاجة فيه إلى الاستغفار.

قلت: أهل الورع والمناصب العالية في التقوى يفعلون مثل هذا؛ بناء على نسبتهم التقصير إلى أنفسهم في التحفظ ابتداء، انتهى.

قلت: ويحتمل أن أبا أيوب قضى بعض حاجته قِبَل القِبلة ناسيًا، فلما تذكر؛ انحرف عنها، ثم استغفر الله تعالى، ولهذا قال أئمتنا الأعلام: وإذا جلس مستقبلًا ناسيًا فتذكر؛ يستحب له أن ينحرف بقدر ما يمكن؛ لما أخرجه الطبراني مرفوعًا: «من جلس يبول قبالة القبلة، فانحرف عنها إجلالًا لها؛ لم يقم من مجلسه حتى يغفر له»، ويكره إمساك الصبي نحو القبلة ببول، انتهى؛ فافهم.

وزعم القسطلاني أن أبا أيوب لم يبلغه حديث ابن عمر.

قلت: وهو غير صحيح، فإن مثل هذا الصحابي الجليل لا يقال فيه هكذا، وإنما أبو أيوب لم يره مخصصًا، بل جعله من اختلاف الوقائع والأزمان والأحوال، ولا منافاة، وقد يقال: إن ما رواه أبو أيوب ناسخ لما رواه ابن عمر وغيره؛ لأنَّه عام ليس بمخصوص ومتأخر عنه، ويدل عليه عموم قوله عليه السَّلام: «فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها...»؛ الحديث، فإنه عام وأرجح من حديث ابن عمر وأثبت، وعليه العمل في كثير من الأمصار، وهو الصواب.

(وعن الزهري) عطف على قوله: (حدثنا سفيان، عن الزهري)؛ يعني: بالإسناد المذكور أيضًا، (عن عطاء) : هو ابن يزيد الليثي (قال: سمعت أبا أيوب) أي: الأنصاري رضي الله عنه، (عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم مثلَه)؛ بالنصب؛ أي: مثل الحديث السابق، وفائدة ذكره مكررًا: أن في الطريق الأول عنعن الزهري عن عطاء عن أبي أيوب، وفي هذا الطريق صرح عطاء بالسماع عن أبي أيوب، والسماع أقوى من العنعنة، وقال الكرماني: السماع أقوى من العنعنة، وهي أقوى من (أنَّ)، لكن فيه ضعف من جهة التعليق عن الزهري.

قال إمام الشَّارحين: (وهذا هو الظاهر، ولكن الحديث بهذا الطريق مسند في «مسند إسحاق ابن راهويه» : عن سفيان... إلى آخره) انتهى.

(٣٠) [باب قول الله تعالى {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}]

هذا (باب قول الله تعالى) وفي رواية: (قوله تعالى)، وإنما بوب بهذه الآية الكريمة؛ لأنَّ فيها بيان القبلة، وهذا وجه المناسبة في ذكر هذا الباب بين هذه الأبواب المذكورة هنا المتعلقة بالقبلة وأحكامها: ({وَاتَّخِذُوا}) [البقرة: ١٢٥]؛ بكسر الخاء المعجمة، بلفظ الأمر على القراءة المشهورة، وهو على إرادة القول؛ يعني: وقلنا لهم اتخِذوا، وهذا الأمر هو على وجه الاختيار والاستحباب دون الوجوب، وقرأ نافع وابن عامر: {وَاتَّخَذُوا}؛ بفتح الخاء، بلفظ الماضي عطفًا على قوله تعالى: {وَإِذْ (٢) جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا واتخَذوا}، كذا في «عمدة القاري» ({مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ}) : هو خليل الرحمن، وأبو الأنبياء عليه وعليهم السلام.

واختلف المفسرون في المراد بالـ (مقام) ما هو؟ فروى ابن أبي حاتم عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما:


(١) في الأصل: (يرى)، وليس بصحيح.
(٢) {إذ} سقط من الأصل.

<<  <   >  >>