للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

فتأمل.

(أخبرني عروة بن الزُّبير) هو من تتمة مقول ابن شهاب، قاله الشَّارح في «عمدة القاري» وتبعه الكرماني وكذا ابن حجر والقسطلاني، وخالفهم العجلوني فزعم أنَّه من قول عم ابن شهاب، قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ ظاهر اللَّفظ يخالفه؛ فافهم: (أن عائشة زوجَ النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) بفتح همزة (أن) ونصب (زوج) صفة لـ (عائشة) (قالت: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وأفادت لفظة (كان) الدوام والاستمرار (يقوم فيصلي من الليل)؛ أي: النافلة؛ ومعناه: يقوم فيصلي النافلة بعض الليل، فإنما أتت بكلمة (من) إشارة إلى أنَّه يقوم بعض الليل لا الليل كله، وزعم العجلوني: (من الليل)؛ أي: فيه، كقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ} [الجمعة: ٩]؛ أي: فيه، انتهى، قلت: وفيه نظر، ويدل على ما قلنا قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ} [المزمل: ٢٠]؛ فافهم، (وإني) بكسر الهمزة (لمعترضة بينه) أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم (وبين القبلة) والجملة اسمية مؤكدة بـ (إن) واللَّام، في موضع نصب على الحال، (على فراش أهله)، كذا في رواية الأكثرين، وهو متعلق بـ (يصلي)، وهو يدل على أنَّ صلاته كانت على الفراش، ويحتمل تعلقه بـ (يقوم)، وهو متعين في رواية المستملي: (عن فراش أهله)؛ بكلمة (عن)، أفاده الشَّارح بزيادة.

ومطابقته للتَّرجمة ظاهرة في قول الزهري، وأما في قول عائشة؛ فإن اعتراضها بينه وبين القبلة غير قاطع لصلاته، واعتراضها شامل لمسها ونومها ورقودها، فالمارة لا تقطع بالطريق الأولى، وهذا يدل على أنَّ حديث: (يقطع الصلاة المرأة، والكلب، والحمار) منسوخ بهذا؛ لأنَّه عليه السَّلام قد صلى وهي معترضة، فلم تضر صلاته.

وزعم ابن حجر أن الدلالة من هذا الحديث أن حديث: (يقطع الصلاة المرأة...) إلخ: يشمل ما إذا كانت مارة، أو قائمة، أو قاعدة، أو مضطجعة، فلما ثبت أنَّه عليه السَّلام صلى وهي مضطجعة أمامه؛ دل ذلك على نسخ الحكم في المضطجع، ففي الباقي بالقياس عليه، وهذا يتوقف على إثبات المساواة بين الأمور الثلاثة، وفرَّق بعضهم بين المرور وغيره فقال: المرور حرام، فكان قاطعًا للصلاة بخلاف غيره، ونازع بعض آخر في الاستدلال بأن العلة في قطع الصلاة بالمرأة التشويش من رؤيتها، وهذا مأمون في حديث عائشة حيث قالت: (والبيوت يومئذ لم يكن فيها مصابيح)، وبأن المرأة في غير حديث عائشة مُطلَقة، وفي حديثها مقيدة بالزوجة، فيحمل حديث غيرها على حديثها، ويكون القطع مقيدًا بالأجنبية خشية الافتتان بها، وبأن حديث عائشة واقِعةُ حال بخلاف حديث أبي ذر؛ فإنَّه سيق للتشريع العام، انتهى.

قلت: وكل هذا منظور فيه؛ لأنَّ شمول الحديث لما ذكره غير ظاهر؛ لأنَّه غير مذكور في الحديث ولا يفيده ولا يشير إليه، بل الحديث شامل لمسها، ونومها، ورقودها، وقعودها؛ لأنَّ المضطجع تارة يكون نائمًا، وتارة يكون راقدًا، وتارة يكون قد عرض عليه القعود، كما لا يخفى، ولمَّا ثبت أنَّه عليه السَّلام قد صلى وهي مضطجعة أمامه؛ دل هذا على النَّسخ ألبتة في المضطجع، وفي غيره بالقياس عليه، وهو مساوٍ له؛ لأنَّ الحادثة واحدة، والحكم واحد، والواقعة واحدة، فصح القياس وثبتت المساواة بينهما.

وتفريق بعضهم بين المرور وغيره وأن المرور حرام؛ غير ظاهر؛ لأنَّ المرور وإن كان حرامًا، لكن في نفسه لا يتعدى إلى غيره من قطع الصلاة، فإن القطع حكم آخر وهو منسوخ بدليل آخر، وهو حديث الباب ومنازعة البعض لا تخلو عن نظر، فإن كان العلة التشويش؛ فيرده صلاته عليه السَّلام وعائشة معترضة بينه وبين القبلة ولم تضر صلاته.

وزعمه بأن التشويش مأمون في حديث عائشة؛ لعدم المصابيح؛ ممنوع، فإن وجود المصابيح ليس بعلة؛ لأنَّه قد يخطر بخاطر الإنسان وإن لم يكن مصابيح، على أنَّه -المصلي- إذا كان في صلاته مشتغلًا بها لا يخطر بباله شيء آخر غيرها، قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: ٤].

وما زعمه من أن حديث عائشة مقيد بالزوجية وغيره مطلق؛ ممنوع، فإنَّه لا فرق بين الزوج والأجنبية في الصلاة، والحمل غير ظاهر، وحديث عائشة ليس واقعة حال، بل هو عام سيق للتشريع، وأما حديث أبي ذر؛ فالظَّاهر: أنَّه واقعة حال، على أنَّه منسوخ بحديثها؛ لأنَّها أعلم من أبي ذر بالأحكام مع ملازمتها لأقوال الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وأفعاله، فلو لم تعلم بالنَّسخ؛ لما أنكرت على الذين ذكروا عندها قطع الصلاة.

والحاصل: أن أحاديث قطع الصلاة منسوخة، والعناد بعد ذلك مكابرة.

وادعى ابن بطال أن ذلك من خصائصه عليه السَّلام؛ لأنَّه يملك إربه بخلاف غيره، انتهى.

قلت: فيه نظر؛ لأنَّ دعوى الخصوصية لا بد لها من دليل يدل عليها ولم يوجد ما يدل عليها، وكون غيره لا يملك إربه؛ ممنوع، فإنَّه قد ثبت عنه عليه السَّلام: «الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة»، فإذا كانت الخيرية باقية في أمته؛ فلا شك أن المصلي يملك إربه؛ فافهم.

وقيل: الحكمة في تخصيص القطع بالثلاثة: أن الجميع في معنى الشَّيطان؛ الكلبُ بنَصِ الحديث، والمرأة من جهة أنها تقْبِل في صورة شيطان وتُدْبِر كذلك وأنها من حبائل الشَّيطان، وأما الحمار؛ فلِمَا جاء من اختصاص الشَّيطان به في قصة نوح عليه السَّلام في السفينة، انتهى.

قلت: فيه نظر؛ لأنَّه إذا ثبت أن حكم قطع الصلاة بهذه الثلاثة منسوخ؛ فلا حاجة إلى إبداء حكمة لذلك، على أنَّه قد نص الحديث أن الكلب الأسود شيطان لا مطلق الكلب، كما لا يخفى، ومع هذا فقد ثبت في «الصَّحيحين» : أن الشَّيطان عَرَض للنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في صلاته ولم يضرها ولا قطعها، وقد تقدم أن الشَّيطان نفسه لو مر بين يدي المصلي؛ لم تفسد صلاته بدليل الحديث المذكور.

فإن قلت: في الحديث أنَّه جاء ليقطع صلاته.

قلت: قد بينت رواية مسلم أن سبب القطع مجيء الشَّيطان بشهاب من نار ليجعله في وجهه عليه السَّلام، وأما مجرد المرور؛ فقد حصل ولم تفسد به الصلاة؛ فافهم.

وفي الحديث: أن المرأة لا تقطع صلاة الرجل، وفيه: جواز الصلاة إلى المرأة، وكرهه بعضهم، وفيه: استحباب صلاة الليل، وفيه: جواز الصلاة على الفراش، والله أعلم.

(١٠٦) [باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة]

هذا (باب) بيان حكم (من حمل) زاد الأربعة: (في الصلاة)، وفي نسخة (بابٌ) بالتنوين (إذا حمل)؛ أي: المصلي، (جارية صغيرة على عنقه) هل تفسد صلاته أم لا؟

وقال ابن بطال: أدخل البخاري هذا الحديث هنا؛ ليدل على أنَّ حمل المصلي الجارية على العنق لا تضر صلاته؛ لأنَّ حملها أشد من مرورها بين يديه، فلما لم يضر حملها؛ كذلك لا يضر مرورها، قال الشَّارح: قلت: فلذلك ترجم البخاري هذا الباب بهذه التَّرجمة وبينه وبين الأبواب التي قبله مناسبة من هذا الوجه، انتهى.

وزعم ابن حجر: وتقييد المصنف بكونها صغيرة قد يشعر بأن الكبيرة ليست كذلك، انتهى.

قلت: تقييد البخاري الصغيرة مبني على الأغلب الكثير أن الصغير يحمل عادة مع أن حكم حمل الكبيرة كذلك؛ لأنَّ المعتبر هو

<<  <   >  >>