للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

قول ضعيف عندهم: أنَّها واجبة، ولهذا قال ابن بطال المالكي: (وفي الحديث: أنَّ النجاسات ليست إزالتها بفرض، ولو كانت فرضًا؛ لما أجاز عليه السَّلام للجريح أن يسكن في المسجد) انتهى.

فهذا -كما رأيت- نص على أنَّ المعتمد عند مالك عدم الوجوب، وصاحب الدار أدرى، ثم رأيت القرطبي المالكي صرَّح بذلك، فما زعمه العجلوني فاسد.

وقوله: (ولا نعرف...) إلى آخره: انظر هذا القائل هل أحاط علمه بمذهب الشَّافعي الجديد حتى يكون أحاط علمه بمذهبه القديم، وهل أحاط بمذهب أحمد بعد الإحاطة بمذهبه، على أنَّ قول إمام الشَّارحين معتمد، بل هو أوثق من غيره من الشراح، فإنَّ عدم معرفة هذا القائل بمذهبه (١) القديم لا ينفي معرفته عن غيره، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، والمثبِت مقدَّم على النافي، وكون الرواية عن أحمد: أنَّها واجبة؛ ضعيفة، وكون الصَّحيح: أنَّها شرط عندهم؛ إنَّما هو عند المتأخرين، أمَّا عند المتقدمين؛ فليست بشرط، وهو الصَّحيح كما نص عليه في «الغاية» و «شرحها»؛ فانظر تعصب العجلوني البارد، ولا غروًا، فإن الشَّافعية هذا حالهم.

واعلم أنِّي أكثر النقل عن إمام الشَّارحين لا للتبري، بل لكونه أوثق من غيره من الشراح، وحتى يعرف الحاسدون أنَّ جميع الشراح عيال على شرحه، ألا ترى أنَّك إذا نظرت إلى الشروح الموجودة؛ تجدها كلها مأخوذة منه، وهذا شيء محقق؛ لأنَّه مبني على المشاهدة والعيان، فلله دره من إمام، والله تعالى أعلم.

(٧٨) [باب إدخال البعير في المسجد للعلة]

هذا (باب) حكم (إدخال البعير) يشمل الجمل والناقة؛ كالإنسان للرجل والمرأة (في المسجد) اللَّام فيه للجنس، فيشمل كل مسجد (للعلة)؛ أي: الحاجة، وهي أعم من أن يكون الضعف أو غيره، وقيل: المراد بالعلة: الضعف.

واعترض عليه بأنَّ هذا ظاهر في حديث أم سلمة دون حديث ابن عبَّاس.

وأجيب: بأنَّ أبا داود روى عنه: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة، وهو يشتكي فطاف على راحلته، ومع هذا كله؛ فتقييد العلة بالضعف لا وجه له؛ لأنَّا قلنا: إنَّها أعم، فيتناول الضعيف، وأن يكون طوافه على بعيره؛ ليراه الناس، كما جاء عن جابر: أنَّه إنَّما طاف على بعيره؛ ليراه الناس وليسألوه، فإنَّ الناس غشوه، كذا قرره إمام الشَّارحين.

(وقال ابن عبَّاس) هو عبد الله المطلبي، حبر هذه الأمة، وترجمان القرآن: (طاف النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم على بَعيره)؛ بفتح أوله يشمل الجمل والناقة؛ كالإنسان للرجل والمرأة، وإنما سمي بعيرًا إذا أجدع، والجمع أبعرة، وأباعر، وبعران، كذا في «مختصر الصِّحاح»، وفي رواية: (على بعير)؛ أي: في المسجد؛ لأنَّه لا يصح الطواف خارجه.

وقال إمامنا الشَّارح: (ومطابقته للتَّرجمة ظاهرة؛ لأنَّ فيه إدخال البعير في المسجد للعلة؛ لأنَّه عليه السَّلام لما قدم مكة؛ كان يشتكي على ما رواه أبو داود عنه، فذكره البخاري معلقًا، وذكره مسندًا في باب «من أشار إلى الركن» في كتاب «الحج») انتهى.

[حديث: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة]

٤٦٤ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي المنزل (٢)، الدمشقي الأصل (قال: أخبرنا مالك) هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن محمَّد بن عبد الرحمن) هو ابن الأسود (ابن نَوفَل) بفتح النُّون والفاء، المعروف بيتيم عروة بن الزُّبير، (عن عروة) زاد ابن عساكر: (ابن الزُّبير) هو ابن العوام المدني، (عن زينب) وفي رواية: (بَرة)؛ بفتح الموحَّدة، وتخفيف الرَّاء، وهو اسمها الأصلي قبل تغيير النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم له (بنت أبي سَلَمَة)؛ بفتحات: هو عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، (عن) أمها (أم سلمة) هي أم المؤمنين هند بنت أبي أمية.

قال إمام الشَّارحين: (وفي إسناده رواية تابعي عن تابعي، وهما: محمَّد وعروة، ورواية عروة عن صحابية، وهي زينب؛ لأنَّها سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم عند البخاري، وفيه رواية صحابية عن صحابية، وهما: زينب وأم سلمة، وفيه أنَّ رواته مدنيون ما خلا شيخ البخاري) انتهى.

أنَّها (قالت) أي: أم سلمة: (شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقوله: (إنِّي أَشتكي)؛ بفتح الهمزة، محله نصب؛ لأنَّه مفعول (شكوت)، يقال: اشتكى عضوًا من أعضائه؛ إذا توجع منه، وشكوت فلانًا؛ إذا خبرت عنه بسوء فعله بك، قاله إمامنا الشَّارح، (قال) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لها: (طوفي) أي: حول الكعبة (من وراء الناس وأنتِ) بكسر التَّاء (راكبة) الواو للحال، والجملة حالية؛ والمعنى: طوفي من ورائهم حال كونك راكبة على البعير، وإنَّما أمرها بالطواف من وراء الناس؛ لأنَّها إذا طافت معهم ربما تؤذي الدَّابة أحدًا أو تدوس عليه، والإيذاء حرام، قالت: (فطفت) أي: كما أمرها عليه السَّلام؛ أي: راكبة على بعير من وراء الناس، قال إمام الشَّارحين: (ففيه المطابقة للتَّرجمة، وفيه: جواز إدخال البعير في المسجد لعلة الضعف) انتهى، وجملة: (ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي) أي: الصبح -كما في الكفيري- (إلى جنب) وفي نسخة: (جانب) (البيت)؛ أي: الكعبة، محلها نصب؛ لأنَّها حالية، والواو للحال.

وزعم العجلوني أنها مستأنفة.

قلت: وهو بعيد، كما لا يخفى.

و (البيت) : عَلَم على الكعبة شرفها الله تعالى، قال الكرماني: (وفائدة ذكر البيت: أنَّه كان يصلِّي منها إلى الجَنْب؛ يعني: قريبًا من البيت لا بعيدًا منه).

وقال ابن عبد البر: (وصلاته إلى جنب البيت من أجل أنَّ المقام كان حينئذٍ ملصقًا بالبيت قبل أن ينقله عمر رضي الله عنه من ذلك المكان إلى صحن المسجد) انتهى.

وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (والوجه في ذلك أنَّ البيت كله قبلة، فحيث صلى المصلي منه إذا جعله أمامه؛ كان حسنًا جائزًا) انتهى.

قلت: فإن الذي يفهم من كلام ابن عبد البر تخصيص الصلاة، وتعيينها إلى المقام، ولا وجه له؛ لأنَّ البيت كله قِبلة؛ فافهم.

وزعم العجلوني أنَّه لا يفهم من كلامه تعيين الصلاة إلى المقام، انتهى.

قلت: لا يخفى على أولي الأفهام والبصائر أنَّ كلامه يفيد تخصيص الصلاة وتعيينها إلى المقام، كما هو ظاهر؛ لأنَّه جعل علة صلاته إلى جانب البيت من أجل أن المقام كان ملصقًا بالبيت، وهو ظاهر في التَّعيين، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم، ولا عبرة بما يفهمه الغبي صاحب الفهم القاصر؛ فافهم.

وجملة (يقرأ) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (بالطور وكتاب مسطور) محلها نصب على الحال من فاعل (يصلِّي)، ويحتمل أنَّ محلها رفع خبر بعد خبر، ويحتمل كونها مستأنفة، لكنه بعيد، والأول أظهر، وقولها: (بالطور)؛ أي: بسورة {والطور}، ولعلها لم تذكر واو القسم؛ لأنَّ لفظ (الطور) كأنَّه صار علمًا للسورة، قاله إمام الشَّارحين، ومثله في «الكرماني».

قال العجلوني: (ولعل مراده: كالعَلَم الأصلي، وإلا؛ فهو علم لها بالغلبة) انتهى.

قلت: وكلامه يحتمل أنَّه صار عَلَمًا أصليًّا للسورة، ويحتمل أنَّه صار علمًا بالغلبة على السورة، وكل منهما محتمل، وهو ظاهر، فلا حاجة لما زعمه هذا القائل؛ فافهم.

و {الطور} معناه -كما قاله البيضاوي وغيره-: طور سينين، جبل بمدين، سمع موسى فيه كلام الله، والطور: الجبل بالسريانية، أو ما طار من أوج الإبعاد إلى حضيض المواد أو وقف عالم الغيب إلى عالم الشهادة، و {كتاب} : المكتوب، و (المسطور) : ترتيب الحروف المكتوبة، والمراد بـ (الكتاب) : القرآن، أو ما كتبه الله في اللوح المحفوظ، أو ألواح موسى، أو في مكتوب


(١) في الأصل: (بمذهب)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (الأصل)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>