للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

«جنبوا مساجدكم صبيانكم وخصوماتكم»، وحديث مكحول عند أبي نعيم الأصبهاني عن معاذ مثله، وحديث جبير بن مطعم، ولفظه: «ولا ترفع [فيه] الأصوات»، وكذا حديث ابن عمر عند أحمد.

وأجيب: بأن هذه الأحاديث ضعيفة، فبقي الأمر على الإباحة، وفيه نظر؛ لأنَّ الأحاديث الضعيفة تتعاضد وتتقوى إذا اختلفت طرقها ومخرجها، والأولى أن يقال: أحاديث المنع محمولة على ما إذا كان الصوت متفاحشًا، وحديث الإباحة محمول على ما إذا كان غير متفاحش، وقال مالك: لا بأس أن يقضي الرجل في المسجد دينًا، وأمَّا التجارة والصرف؛ فلا أحبه) انتهى.

وقال ابن بطال: (وفيه دلالة على إباحة رفع الصوت في المسجد ما لم يتفاحش؛ لعدم إنكاره عليه السَّلام) انتهى.

وزعم العجلوني عنه أنَّ مالكًا كرهه مطلقًا سواء كان في العلم أو غيره، انتهى.

قلت: وهو مخالف لما نقله إمام الشَّارحين وابن بطال عنه، ولعله قول شاذ عنده؛ لأنَّ مالكًا كان يلقي الحديث في مسجد النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، ويحضره الجم الغفير، فيحتاج إلى رفع صوته؛ فافهم.

وأباح رفع الصوت في المسجد الإمام الأعظم رضي الله عنه، قال ابن عيينة: (مررت بأبي حنيفة وهو مع أصحابه في المسجد، وقد ارتفعت أصواتهم، فقلت: يا أبا حنيفة؛ الصوت لا ينبغي أن يرفع فيه، فقال: دعهم، فإنَّهم لا يفقهون إلا بهذا).

وقال ابن الملقن: (وفي خبر لا يُقوَّى: أنَّه عليه السَّلام نهى عن رفع الصوت في المساجد، وإنشاد الشعر، وطلب الضالة، والصفقة في البيوع) انتهى.

والحاصل: أنَّ أحاديث النَّهي كلها ضعيفة لا يحتج بها، فبقي الأمر على التفصيل الذي ذكره إمام الشَّارحين، والله تعالى أعلم.

(٨٤) [باب الحلق والجلوس في المسجد]

هذا (باب) حكم (الحِلَق) وقوله: (والجلوس) من عطف العام على الخاص (في المسجد) اللَّام فيه للجنس؛ أي: في أي مسجد كان، والمراد بالحكم الجواز؛ يعني: يجوز ذلك خصوصًا إذا كان لعلم، أو ذكر، أو قراءة قرآن؛ لحديث الباب، و (الحِلَق)؛ بكسر الحاء المهملة، وفتح اللَّام، كذا قاله الخطابي، ى وقال ابن التين: (بفتح الحاء واللَّام، جمع حلقة؛ مثل: تمرة وتمر، ونسب العجلوني الأول لرواية الأكثرين، والثاني لرواية ابن عساكر؛ فتأمل، واللَّام مفتوحة على كل حال).

وقال إمام الشَّارحين: (وفي «المحكم» : الحلقة: كل شيء استدار؛ كحلقة الحديد، والفضة، والذهب، وكذا هو في الناس، والجمع: حلاق على الغالب، وحلق على النادر؛ كهضبة وهضب، والحلق عند سيبويه: اسم للجمع، وليس بجمع؛ لأنَّ «فعلة» ليست مما يكسر على «فعل»، ونظير هذا ما حكاه من قولهم: فلكة وفلك، وقد حكى سيبويه في الحلَقة فتح اللَّام، وأنكرها ابن السكيت وغيره، وقال اللحياني: حلْقة الباب وحلَقته؛ بإسكان اللَّام وفتحها، وقال كراع: حلقة القوم وحلقتهم (١)، وحكي: حلقة القوم وحلاق، وحكى يونس عن أبي عمرو بن العلاء: حلَقة في الواحد بالتحريك، والجمع: حلقات، وفي «الموعب» : الحلق: مؤنثة في القياس، إلا أنَّي رأيته في رَجَزِدُكين مذكرًا، وبلغني: أنَّ بعضهم يقول: الحلَقة؛ بالتحريك، وهو لغة قليلة، فجاء التذكير على هذا، وحكى مكي عن الخليل: حلَقة؛ بالتحريك، قال الفرزدق:

يا أيها الجالس وسط الحلَقة... أفي زنًى جلدت أم في سرقة

وفي «المجرد» : حلقة القوم وحلقة، والجمع: حلق وحلق وحلاق) انتهى.

وفي «القاموس» : (حلَقة الباب والقوم، قد تفتح لامها وتكسر، وليس في الكلام: حلقة -محركة- إلا جمع حالق، أو لغة ضعيفة، والجمع: حلَق- محركة وكبدر- وحلقات؛ محركة وبكسر اللَّام) انتهى.

[حديث: مثنى مثنى فإذا خشي الصبح صلى واحدة]

٤٧٢ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا مسدد) هو ابن مسرهد البصري (قال: حدثنا بِشْر) بكسر الموحَّدة، وسكون المعجمة (ابن المفضل)؛ بِضَمِّ الميم على صيغة المفعول: هو ابن لاحق الرقاشي البصري، المتوفى سنة تسع وثمانين ومئة، (عن عُبيد الله)؛ بِضَمِّ العين المهملة على صيغة التصغير، وللأصيلي: (حدثنا عبيد الله) هو ابن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، (عن نافع) هو مولى ابن عمر، (عن) عبد الله (ابن عمر) هو ابن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنهما: أنَّه (قال: سأل رجل) : قال إمام الشَّارحين: لم يعرف اسمه (النَّبيَّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، وقوله: (وهو على المنبر) : جملة حالية من النَّبي عليه السَّلام: (ما ترى) : يحتمل أن يكون من الرأي؛ أي: ما رأيك؟ وأن يكون من الرؤية التي هي العلم والمراد لازمه؛ أي: ما حكمك؟ فإنَّ العالم يحكم بعلمه شرعًا؛ فافهم (في صلاة الليل)؛ أي: هل هي تصلى أربعًا أربعًا أو ركعتين ركعتين؟ (قال)؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم مجيبًا للسائل، وهو على منبره في مسجده بقوله: (مثنى مثنى) مقول القول، وهو في الحقيقة جملة؛ لأنَّ مقول القول يكون جملة، فالمبتدأ محذوف؛ تقديره: صلاة الليل مثنى مثنى؛ أي: اثنين اثنين، والثاني تأكيد للأول، وهو غير منصرف؛ لأنَّ فيه العدل التحقيقي والصِّفة، قاله إمام الشَّارحين.

وقال الزركشي: (واستشكل بعضهم التكرار، فإنَّ القاعدة فيما عدل من أسماء الأعداد ألَّا يكرر، فلا يقال: جاء القوم مثنى مثنى.

وأجيب: بأنَّه تأكيد لفظي لا لقصد التكرار، فإنَّ ذلك مستفاد من الصيغة)، ثم قال: إنَّ أصل السؤال فاسد، بل لا بد من التكرار إذا كان العدل في لفظ واحد؛ كمثنى مثنى، وثُلاث ثُلاث، قال الشاعر:

هنيئًا لأرباب البيوت بيوتهم... وللآكلين التمر مخمس مخمسا

ومنه الحديث، فإن وقعت بين لفظين أو ألفاظ مختلفة؛ لم يجز التكرار؛ كـ {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}، والحكمة في ذلك: أنَّ ألفاظ العدد المعدولة مشروطة بسبق ما يقع فيه التفصيل تحقيقًا؛ نحو: {أُوْلِي أَجْنِحَةٍ} [فاطر: ١]، أو تقديرًا؛ نحو: «صلاة الليل مثنى مثنى»، فإذا أريد تفصيله من نوع واحد؛ وجب تكراره؛ لأنَّ وقوعه بعده إمَّا على جهة الخبرية، أو الحالية، أو الوصفية، فحمله عليه يقتضي مطابقة له، فلا بد من تكراره لتحصل الموافقة له؛ لأنَّه لا يحسن وصف الجماعة باثنين وإن كان من ألفاظ


(١) في الأصل: (وحلقهم)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>