للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

مقدرة متعددة، فالمجموع تفصيل للمجموع، فكان وافيًا به، فلأجل ذلك لم يكرر؛ نحو قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: ٣]، وإنَّما كان العدل في هذه الألفاظ من غير تكرار؛ ليصيب كل ناكح ما شاء من هذه الأعداد؛ إذ لو كان من لفظ واحد؛ لاقتصر الناكحون على ذلك العدد، انتهى.

وردَّه الدماميني فقال: (لا أعرف أحدًا من النحاة ذهب إلى هذا التفصيل الذي ذكره، وفي «الصِّحاح» : إذا قلت: جاءت الخيل مثنى؛ فالمعنى: اثنين اثنين؛ أي: جاؤوا مزدوجين، فهذا مما يقدح في إيجاب التكرير في اللَّفظ الواحد، ثم بناء ما ذكره على الحكمة التي أبداها بناء ضعيف؛ لأنَّ المطابقة حاصلة بدون تكرير اللَّفظ المعدول من جهة المعنى، وذلك لأنَّك إذا قلت: جاء القوم مثنى؛ إنَّما معناه: اثنين اثنين... وهكذا؛ فهو بمعنى: مزدوجين، كما قال الجوهري، ولا شك في صحة حمل مزدوجين على القوم، ثم تكرير اللَّفظ المعدول لا يوجب المطابقة؛ لأنَّ الثاني كالأول سواء، وليس ثم حرف يقتضي الجمع حتى تحسن المطابقة التي قصدها، فلا يظهر وجه صحيح لما قاله وبناه) انتهى.

قلت: وقد سلمه الشَّارحون، فكان أصل السؤال صحيحًا، والتكرار للتأكيد كما سبق؛ فافهم.

قلت: بقي على الدماميني أنَّه لا يلزم من عدم معرفته التفصيل عن أحد من النحاة ألَّا يكون وجهًا صحيحًا مذهبًا لأحد من النحاة؛ لأنَّه لم يُحِط بمذاهب النحو جميعها، والمثبِت مقدَّم على النافي، وما ذكره عن «الصِّحاح» لا يقدح في إيجاب التكرار؛ لأنَّه مبني على اللَّفظ الواحد، وههنا المعنى مبني على تكرار اللَّفظ، والحكمة في الآية مبنية (١) على وجه صحيح، لأنَّ المطابقة حاصلة بالتكرار وعدمه، على أنَّها (٢) ليست حاصلة من جهة اللَّفظ، ولا يلزم وجود حرف يقتضي الجمع، لأنَّ الحرف وإن كان غير موجود؛ فهو مقدر الوجود؛ لأجل صحة المعنى المراد منه على أنَّه قد أيد كلامه بآيات من القرآن الفصيح مع المعنى الصَّحيح، والحروف تعمل موجودة ومقدرة، ويستعار بعضها مكان بعض، كما لا يخفى؛ فافهم.

(فإذا خشي أحدُكم) هكذا رأيناه في النُّسخ الصَّحيحة بذكر (أحدكم) المرفوع على الفاعلية، وعليه شرح إمام الشَّارحين، ووقع في بعض النُّسخ بدونه، وعليها شرح القسطلاني، فجعل مرجع فاعل (خشي) المصلي (الصبح) أي: طلوع الفجر الصَّادق (صلى واحدة) أي: صلى ركعة واحدة مع شفع قبلها متصلًا بها، (فأوترت) على صيغة الماضي؛ أي: تلك الصلاة المذكورة (له) أي: للمصلي (ما صلى) جملة محلها نصب مفعول (أوترت)، والفاعل: الضمير الذي يرجع إلى الصلاة، والعائد إلى (ما) الموصولة أو الموصوفة محذوف؛ أي: صلاه.

واستدل الشَّافعي على أنَّ أقل الوتر ركعة واحدة لهذا الحديث، وعليه فإسناد الإيتار إلى الركعة هنا وفي الآتي إسناد مجازي عقلي؛ لأنَّ الموتر الشخص.

وهذا الاستدلال خلاف الظَّاهر، ويدل على فساده: (أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى سعيدًا يوتر بركعة، فقال: ما هذه البتيراء؟ تشفعها أو لأؤدبنك)، وروي: (أنَّ سعد بن أبي وقاص أوتر بركعة، فقال له عبد الله بن مسعود: ما هذه البتيراء؟ ما أجزأت ركعة قط، وحلف على ذلك أيمانًا)، رواه أصحاب السنن على شرط الشيخين، وسيأتي لذلك مزيد؛ فافهم.

وقوله: (وإِنَّه) بكسر الهمزة؛ أي: ابن عمر، جملة مستأنفة (كان يقول) من كلام نافع، فالضمير يرجع إلى ابن عمر، والقائل نافع؛ فافهم: (اجعلوا آخر صلاتكم) وقوله: (بالليل) ثابت في النُّسخ الصَّحيحة، وعليها شرح إمام الشَّارحين، وعزاها إلى رواية الكشميهني والأصيلي، ساقط في بعض النُّسخ؛ فافهم، (وترًا) : زاد ابن عساكر وأبو الوقت: (فقط)، ثم أكد ذلك بقوله: (فإن النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم أمر به)؛ أي: بالوتر أو بالجعل الذي دل عليه قوله: (اجعلوا).

قال إمامنا الشَّارح: (ومطابقة هذا الحديث للجزء الثاني من التَّرجمة ظاهرة؛ لأنَّ كونه عليه السَّلام على المنبر يدل على جماعة جالسين في المسجد، ومنهم الرجل الذي سأله عن صلاة الليل) انتهى.

وقال ابن بطال: (شبَّه البخاري في حديث جلوس الرجال في المسجد حوله عليه السَّلام وهو يخطب بالتحلق والجلوس في المسجد للعلم) انتهى.

قال إمام الشَّارحين: (فعلى هذا طابق الحديث جزأي التَّرجمة كليهما) انتهى.

قلت: أي: فإنَّ الظَّاهر أنَّه عليه السَّلام لا يكون في المسجد وهو على المنبر يخطب إلا وعنده جماعة جلوس محلقين به كالمتحلقين؛ فافهم.

وفي الحديث: جواز الحِلَق في المسجد لسماع العلم وقراءته، وكذا للذكر، وقراءة القرآن، ونحو ذلك.

فإن قلت: روى مسلم من حديث جابر بن سمرة قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وهم حلق، فقال: «ما لي أراكم عزين؟»، فهذا يعارض ذاك.

قلت: تحلقهم هذا كان لغير فائدة ولا منفعة، بخلاف تحلقهم في ذاك؛ لأنَّه كان لسماع العلم والتعلم، فلا معارضة.

وفيه: أنَّ الخطيب إذا سئل عن أمر الدِّين؛ أنَّ له أن يجاوب من سأله، ولا يضر ذلك خطبته.

وفيه: أنَّ صلاة الليل ركعتان.

قلت: ولا دلالة فيه؛ لأنَّه عليه السَّلام كان حكيمًا ينظر للسائل، ويجيبه على قدر طاقته على الطاعة، فجوابه عليه السَّلام له بذلك لا يقتضي أنَّ الأفضل في صلاة الليل مثنى؛ لأنَّ هذه واقعة حال مع علمه عليه السَّلام من السائل أنَّه لا يقدر على أزيد من ركعتين، فأجابه على حسب حاله، فلا يصلح الحديث دليلًا لمن استدل به؛ فافهم.

واختلف في النوافل، ومذهب الإمام الأعظم: أنَّ الأفضل الأربع ليلًا أو نهارًا، وقال الإمامان أبو يوسف ومحمَّد بن الحسن: الأفضل بالليل ركعتان وبالنهار أربع.

وقال مالك والشَّافعي وأحمد: الأفضل أن يكون مثنى مثنى ليلًا ونهارًا؛ لحديث الباب، ولا حجة لهم فيه؛ لأنَّه وارد على سبب، ومع ذلك فهو واقعة حال، وقد طرقه الاحتمال والتأويل، والدليل إذا وجد به ذلك؛ سقط الاستدلال به؛ فافهم.

وأما الإمام الأعظم؛ فاحتج في صلاة الليل بما رواه أبو داود في «سننه» من حديث عائشة رضي الله عنها: أنَّها سئلت عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف الليل، فقالت: (كان يصلِّي صلاة العشاء في جماعة، ثم يرجع إلى أهله فيركع أربع ركعات، ثم يأوي إلى فراشه...)؛ الحديث بطوله، وفي آخره: (حتى قُبض على ذلك)، واحتج في صلاة النهار بما رواه مسلم من حديث معاذة: أنَّها سألت عائشة رضي الله عنها: كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي الضُّحى؟ قالت: (أربع ركعات يزيد ما شاء)، ورواه أبو يعلى في «مسنده»، وفيه: (لا يفصل بينهنَّ بسلام).

فإن قلت: روى الأربعة عن ابن عمر: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الليل مثنى مثنى».

قلت: لمَّا رواه الترمذي؛ سكت عنه، إلا أنَّه قال: اختلف أصحاب شعبة فيه؛ فرفعه بعضهم، ووقفه بعضهم، ورواه الثقات عن ابن عمر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر فيه صلاة النهار.

وقال النسائي:


(١) في الأصل: (مبني)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>