للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

العلم بقبحه، (مثلُك)؛ بالرفع صفة (أحمق)، ولفظة (مثل) وإن أضيفت (١) إلى المعرفة لا يتعرف؛ لتوغله في التنكير إلا إذا أضيف بما اشتهر بالمماثلة، وههنا ليس كذلك، فلذلك وقع (٢) صفة لنكرة، وهو قوله: (أحمق).

فإن قلت: اللام في قوله: (ليراني)؛ للتقليل والغرض، فكيف وجه إراءة الأحمق غرضًا؟

قلت: الغرض بيان جواز ذلك الفعل، فكأنه قال: صنعته ليراني الجاهل، فينكر علي بجهله، فأظهر له جوازه، وإنما أغلظ عليه بنسبته إلى الحماقة؛ لإنكاره على فعله بقوله: (تصلي في إزار واحد)؛ لأنَّ همزة الإنكار فيه مقدرة على ما ذكرنا، كذا قرره إمام الشَّارحين رضي الله عنه.

(وأيُّنا كان له ثوبان) : استفهام يفيد النفي، ومقصوده: بيان إسناد فعله إلى ما تقرر (على عهد النبي) الأعظم، وللأصيلي: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ يعني: فلا ينكر عليه ذلك، وقال إمام الشَّارحين: (ويستنبط منه جواز الصلاة في الثوب الواحد لمن يقدر على أكثر منه، وهو قول جماعة الفقهاء، وروي عن ابن عمر خلاف ذلك، وكذا عن ابن مسعود رضي الله عنه، فروى ابن أبي شيبة عنه: (لا يصلين في ثوب وإن كان أوسع مما بين السماء والأرض)، وقال ابن بطال: (إن ابن عمر لم يتابع على قوله)، وقال إمام الشَّارحين: (وفيه نظر؛ لأنَّه روي عن ابن مسعود مثل قول ابن عمر، كما ذكرنا، وروي عن مجاهد أيضًا: «لا يصلي في ثوب واحد إلا ألَّا يجد غيره»، نعم، عامة الفقهاء على خلافه، وفيه الأحاديث الصحيحة عن جماعة من الصحابة: جابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وعمرو بن أبي سلمة، وسلمة ابن الأكوع رضي الله عنه، ومن ذلك: أن العالم يأخذ بأيسر الشيء مع قدرته على أكثر منه توسعة على العامة ليقتدى به، وفيه أيضًا: أنه لا بأس للعالم أن يصف أحدًا بالحمق إذا عابَ عليه ما غاب عنه علمه من السنة، وفيه: جواز التغليظ في الإنكار على الجاهل) انتهى، والله تعالى أعلم.

[حديث: رأيت النبي يصلي في ثوب]

٣٥٣ - وبالسند إليه قال: (حدثنا مُطَرِّف)؛ بضم الميم، وفتح الطاء، وكسر الراء المهملتين، آخره فاء (أبو مُصْعَب) بضم الميم، وسكون الصاد وفتح العين المهملتين، هو ابن عبد الله بن سليمان الأصم المدني، مولى أم المؤمنين، ومن أتباع مالك بن أنس، مات سنة عشرين ومئتين (قال: حدثنا عبد الرحمن) : هو ابن زيد (بن أبي المَوالي)؛ بفتح الميم على وزن (الجواري)، وفي رواية: (الموال)؛ بدون الياء، (عن محمد بن المنكدر) : هو التابعي المشهور (قال: رأيت جابرًا) زاد في رواية: (ابن عبد الله)؛ يعني: الأنصاري رضي الله عنه (يصلي) أي: الصلوات الخمس (في ثوب واحد) : قد عقده من قبل قفاه وعنده ثياب غيره، (وقال)؛ أي: جابر: (رأيت النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) حال كونه (يصلي في ثوب)؛ يعني: واحد.

قال إمام الشَّارحين: (وهذه طريقة أخرى لحديث جابر رضي الله عنه، وفيها الرفع إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وأن الصلاة في ثوب واحد وقعت من النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فذكرها؛ لأنَّها أوقع في النفس، وأخرج في الرفع من الطريقة الأولى).

وقال الكرماني: (فإن قلت: كيف دلالة هذا الحديث على الترجمة؟ قلت: إمَّا أنه مخروم من الحديث السابق، وإمَّا أنه يدل عليه بحسب الغالب؛ إذ لولا عقده على القفا؛ لما ستر العورة غالبًا) انتهى.

واعترضه ابن حجر، وأنكر عليه السؤال وجوابه وقال: (لو تأمل لفظه وسياقه بعد ثمانية أبواب؛ لعرف اندفاع احتماليه، فإنه طرف من الحديث المذكور لا من السابق، ولا ضرورة لما ادعاه من الغلبة، فإن لفظة: «وهو يصلي في ثوب ملتحفًا به»، وهي قصة أخرى كان الثوب فيها واسعًا، فالتحف به، وكان في الأولى ضيقًا، فعقده) انتهى.

ورده إمام الشَّارحين فقال: (لا هو مخروم من الحديث السابق، ولا هو طرف من الحديث المذكور في الباب الثامن، بل كل واحد حديث مستقل بذاته؛ فافهم) انتهى.

قلت: وهذا هو الصواب من القول، فإنه لو كان طرفًا من الحديث؛ لكان ذكره بصيغة التعليق، كما هو عادة المؤلف في جميع الأبواب، وعدم ذلك دليل على أنه ليس بطرف من الحديث، ولو كان مخرومًا من الحديث السابق؛ لكان فيه تكرار، وعادة المؤلف لا يذكر شيئًا بدون فائدة، فعدم ذلك دليل على أنه ليس مخرومًا.

وقول ابن حجر: (ولو تأمل لفظه...) إلخ: ممنوع؛ لأنَّه يلزم عليه ذكر وجه المطابقة، ولم يذكره، ويلزم عليه أن يذكر بصيغة التعليق، ويلزم عليه الإحالة إلى ما بعد ثمانية أبواب، وهو معَيب في الصناعة، فإذا كان جميع ذلك غير موجود؛ بطل كلام هذا القائل؛ فافهم.

وقوله: (ولا ضرورة لما ادَّعاه...) إلخ: ممنوع؛ لأنَّه لم يذكر في الحديث أن الثوب كان في الحديث الأول ضيقًا، وفي الثاني واسعًا، ولا في ذلك شيء يدل على ما زعمه هذا القائل، وتمامه في «منهل العليل المطل فيما وقع في الفتح من التطويل المخل»؛ فارجع إليه؛ فإنه مفيد غاية الفائدة.

(٤) [باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفًا به]

هذا (باب) : بيان حكم (الصلاة) أي: صلاة من يصلي (في الثوب الواحد) حال كونه (ملتحفًا به)؛ أي: متغطيًا به؛ لأنَّ الالتحاف لغة: التغطي، وكل شيء تغطيت به؛ فقد التحفت به، وقال الليث: (اللحف: تغطيتك الشيء باللحاف)، وقال غيره: (لحفت الرجل ألحفه لحفًا: إذا طرحت عليه اللحاف، أو غطيته بشيء، وتلحفت: اتخذت لنفسي لحافًا)، كذا في «عمدة القاري»، (وقال الزهري) : هو محمد بن مسلم ابن شهاب، وسقطت الواو في رواية (في حديثه)؛ أي: الذي رواه الحافظ أبو جعفر الطحاوي، عن ابن أبي داود، عن عبد الله بن صالح، عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن سالم بن عمر، عن عبد الله بن عمر قال: (رأى عمر بن الخطاب رجلًا يصلي ملتحفًا، فقال له عمر رضي الله عنه حين سلم: لا يصلين أحدكم ملتحفًا، ولا تشبَّهوا باليهود)، ورواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» : حدثنا عبد الأعلى عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر: (أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلًا يصلي ملتحفًا، فقال: لا تشبهوا باليهود، ومن لم يجد منكم إلا ثوبًا واحدًا؛ فليتزر به)، ورواه أحمد ابن حنبل عن أبي هريرة، والظاهر: أن مراد المؤلف في حديث الزهري هو الذي رواه الحافظ الطحاوي؛ لأنَّه ليس فيه بيان الاتزار، فإن قوله: (ومن لم يجد...) إلخ: زيادة على ذاك، وهي غير لازمة على تفسير الزهري؛ لأنَّه فسر ذلك بالنسبة لحديثه الذي رواه الحافظ الطحاوي لا غيره؛ لأنَّه لا يوافق كلام المؤلف عنه، فما زعمه القسطلاني هنا غير صحيح، كما لا يخفى؛ لأنَّه قال: المراد بحديثه إما ما رواه ابن أبي شيبة، أو ما رواه أحمد.

قلت: ولا دليل له


(١) في الأصل: (أضيف)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (وقع)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>