أبو الحارث القرشي البصري مولى عثمان بن مظعون -بالظاء المعجمة-، التابعي الثقة (قال: سمعت أبا هريرة) : عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه (وكان يمر بنا) : جملة وقعت حالًا من مفعول (سمعت)، وهو أبا هريرة، والضمير في (كان) يرجع إليه وهو اسمه، و (يمر بنا) : جملة محلها النصب على أنَّها خبر لـ (كان) (والناس) : مبتدأ، خبره قوله: (يتوضؤون) : والجملة حال من فاعل (كان)، وهو إمَّا من الأحوال المتداخلة، وإمَّا من الأحوال المترادفة (من المَِطهرة)؛ بكسر الميم وفتحها: الإداوة المعدة للتطهير، والفتح أعلى، جمعها مطاهر؛ وهي متخذة من جلد أو غيره، لكن الظاهر أنَّها إناء؛ فتأمل.
(قال) : وفي رواية: (فقال)؛ أي: أبو هريرة، وفي إعرابه وجهان؛ أحدهما: أنَّ وجه وجود الفاء أن تكون تفسيرية؛ لأنَّها تفسر (قال) المحذوفة بعد قوله: (أبا هريرة)؛ لأنَّ تقدير الكلام: سمعت أبا هريرة قال: وكان يمر بنا... إلى آخره؛ لأنَّ أبا هريرة مفعول (سمعت)، وشرط وقوع الذات مفعول فعل السماع أن يكون مقيدًا بالقول ونحوه؛ كقوله تعالى: {سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي} [آل عمران: ١٩٣]، والثاني: أن وجه عدم الفاء أن يكون (قال) حالًا من (أبي هريرة)؛ والتقدير: سمعت أبا هريرة حال كونه قائلًا: (أَسبغوا الوضوء)؛ بفتح الهمزة، من الإسباغ؛ وهو إبلاغه مواضعه، وإيفاء كل عضو حقه، والتركيب يدل على تمام الشيء وكماله؛ أي: أتموا وصفه، وكأنَّه رأى منهم تقصيرًا، أو خشي عليهم ذلك، وقال ابن عمر: الإسباغ: الإنقاء، وعلل أمرهم بإسباغ الوضوء بقوله: (فإنَّ)؛ بكسر الهمزة، والفاء للتعليل (أبا القاسم)؛ هو كنية النَّبيِّ الأعظم عليه السلام، وذكره بكنيته حسن، وأحسن منه ذكره بوصف الرسالة أو النُّبوة (صلى الله عليه وسلم قال) : جملة محلها الرفع خبر (إنَّ)، ومقول القول قوله: (ويل) : واد في جهنم، كما فسره الحديث السابق (للأعقاب)؛ أي: لأصحابها المقصرين في غسلها (من النار) : ويحتمل أن يكون على ظاهره، فيختص العذاب بها إذا قصر في غسلها، واللام في (الأعقاب) للجنس، فيشمل المرئية وغيرها.
وفيه: دلالة إلى أنَّه يفترض تعاهد مواضع الوضوء، وأنَّه لو بقي لمعة لم يصبها الماء؛ فالوضوء باطل؛ لعموم الحديث، ففرض الرِّجلين الغسل؛ لهذا الحديث حيث توعد عليه بالنار -أعاذنا منها بفضله-، خلافًا للشيعة في زعمهم أن فرضها المسح، وخلافًا للمتصوفة في زعمهم أن الفرض التخيير بين الغسل والمسح، وكل ذلك باطل، والحق ما عليه أهل السنة والجماعة: أن فرضها الغسل، والله تعالى أعلم.
(٣٠) [باب غسل الرجلين في النعلين ولا يمسح على النعلين]
هذا (باب) : جواز (غسل الرِّجلين) : حال كونهما (في النعلين) وإن كان الأولى خلافه؛ لأنَّه إتلاف، ويحتمل أن المراد: أنَّه يغسل الرجلين في حال لبس النعلين خارجهما، وأراد بذلك دفع ما يتوهم أنَّهما كالخفين، ومن ثم قال: (ولا يمسح على النعلين)؛ أي: لعدم إجزائه، ولم يقل: عليهما مع أن المقام للإضمار؛ لئلا يتوهم عود الضمير على الرجلين، وجملة: (ولا يمسح) : خبرية أو إنشائية، والأقرب الثاني؛ فتأمل.
[حديث عبيد بن جريج: يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصنع أربعًا]
١٦٦ - وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف)؛ أي: التنيسي (قال: أخبرنا مالك)؛ أي: ابن أنس الأصبحي، (عن سعيد المقبري)؛ بتثليث الموحدة، (عن عبيد بن جريج)؛ بالجيم، والتصغير فيهما: المدني التيمي، والجرج: وعاء يشبه الخرج، وليس بينه وبين عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج-الفقيه المكي مولى بني أمية- نسب، وقد يظن أن هذا عمه، وليس كذلك، كما في «عمدة القاري» : (أنَّه قال لعبد الله بن عمر)؛ أي: ابن الخطاب رضي الله عنهما: (يا أبا عبد الرحمن)؛ بإثبات الهمزة، وحذفها تخفيفًا، وهي كنية عبد الله بن عمر (رأيتك تصنع) : جملة من الفعل والفاعل في محل نصب على أنَّها مفعول ثان، ومفعول (تصنع) قوله: (أربعًا)؛ أي: خصالًا أربعًا، أو أربع خصال (لم أر أحدًا من أصحابنا) : وفي رواية: (من أصحابك)، والمراد: أصحاب النَّبيِّ الأعظم عليه السلام (يصنعها)؛ أي: يفعلها كلها مجتمعة وإن كان يصنع بعضها، أو المراد أكثرهم، لكن الظاهر انفراد ابن عمر بما ذكر دون غيره ممن رآهم عبيد، وقد يدل على هذا السياق؛ فتأمل.
(فقال) : وفي رواية: (قال)؛ أي: ابن عمر: (وما هي يا ابن جريج؟ قال: رأيتك لا تمس من الأركان)؛ أي: من أركان الكعبة الأربعة (إلَّا) الركنين (اليمانيين)؛ تثنية يمان؛ بتخفيف المثناة التحتية، هذا هو الفصيح، والنسبة إلى اليمن: رجل يمان، ويمني، ويماني، وقيل: يمان على غير قياس، والقياس: يمني، والألف عوض عن الياء التحتية؛ لأنَّه يدل عليه الياء، كما في «المغرب» وغيره، وبعضهم يقول: يمانيٌّ؛ بالتشديد، وقوم يمانون ويمانية، وسمِّيتْ اليمن يمنًا بيعرب، واسمه يمن بن قحطان بن عامر، وهو هود عليه السلام، فلذلك قيل: أرض يمن، وهو أول من قال الشعر ووزنه، كذا في «التيجان»، وفي «المعجم» : سُمِّي اليمن قبل أن تعرف الكعبة المشرفة؛ لأنَّه عن يمين الشمس، وقال بعضهم: سميت بذلك؛ لأنَّها عن يمين الكعبة، وقيل: سميت اليمن؛ ليمنه، وتمامه في «عمدة القاري»، قال: (واليمانِيَّيْن: الركن اليماني، والركن الذي فيه الحجر الأسود، ويقال له: الركن العراقي؛ لكونه من جهة العراق، والذي قبله يماني؛ لأنَّه من جهة اليمن، ويقال لهما: اليمانيان؛ تغليبًا لأحد الاسمين، وهما باقيان على قواعد إبراهيم عليه السلام، وإنما لم يقولوا: الأسودين على التغليب؛ لأنَّه لو قيل ذلك؛ ربما كان يشتبه على بعض العوام أنَّ في كل من هذين الركنين الحجر الأسود، وكان يفهم التثنية، ولا يفهم التغليب؛ لقصور فهم الجاهل بخلاف اليمانيين) انتهى.
ثم قال ابن جريج لابن عمر: (ورأيتك تَلبَس)؛ بفتح المثناة الفوقية والموحدة (النِّعال)؛ بكسر النُّون (السِّبْتية)؛ بكسر السين المهملة، وسكون الموحدة، آخره مثناة فوقية، نسبة إلى سبت؛ وهو جلد البقر المدبوغ بالقرظ، أو كل مدبوغ، أو المدبوغة وغير المدبوغة، وقيل: السِّبتية: التي لا شعر عليها، أو التي عليها الشعر، وقيل: المدبوغ بالسُّبت-بالضم-: نبت يدبغ به، وعليه فالسُّبتية؛ بالضم، وقال الهروي: قيل لها سبتية؛ لأنَّها انسبتت؛ أي: لانت بالدباغ، وقال الأزهري: سميت سبتية؛ لأنَّ شعرها قد سبت عليها؛ أي: حلق وأزيل، يقال: سبت رأسه؛ إذا حلقته، وقال الداودي: نسبته إلى سوق السبت، انتهى؛ وعليه فهي بفتح السين، وإنما اعترض ابن جريج على ابن عمر بلبسها؛ لأنَّها لباس أهل النعيم، وقد كانت الصحابة تلبس النعال بالشعر غير مدبوغة رضي الله عنهم.
(ورأيتك تصبغ)؛ بضم الموحدة، وفتحها، وكسرها؛ أي: شعرك أو ثوبك (بالصُّفرة)؛ بضم الصَّاد المهملة، وهذا شامل لصبغ الثياب، وصبغ الشعر، واختلف في المراد منهما؛ فقال القاضي عياض: الأظهر أن المراد صبغ الثياب؛ لأنَّه أخبر أنَّه عليه السلام صبغ، ولم يقل: إنَّه صبغ شعره، قال في «عمدة القاري» : وقد جاءت آثار عن ابن عمر رضي الله عنهما بيَّن فيها أنَّه صفَّر لحيته، واحتج بأنَّه عليه السلام كان يصفر لحيته بالورس (١) والزعفران، أخرجه أبو داود، وذكر أيضًا في حديث آخر احتجاجه به: بأنَّه عليه السلام
(١) في الأصل: (بالورث)، ولعل المثبت هو الصواب.