للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

أن يتذكروا عبادته، فيجتهدوا في العبادة.

وقال القرطبي: (وذكر أنَّها صور الأنبياء عليهم السلام والعلماء، وكانت تصوَّر في المساجد؛ ليراها الناس؛ فيزدادوا عبادة واجتهادًا).

(أولئكَِ)؛ بكسر الكاف وفتحها (شِرار الخلق عند الله)؛ بكسر الشين المعجمة، جمع (الشر)؛ كالخيار جمع (الخير)، والتجار جمع (التجر)، وأما الأشرار؛ فقال يونس: (واحدها شر)، أيضًا قال الأخفش: (شرِّير مثل يتيم وأيتام).

قال القرطبي: (إنَّما صوَّروا أوائلهم الصور؛ ليتأنَّسوا برؤية تلك الصور، ويتذكروا أفعالهم الصالحة؛ فيجتهدون كاجتهادهم، ويعبدون الله عند قبورهم، ثم خَلَف من بعدهم خلوف وجهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان: إنَّأسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور، ويعظمونها، فعبدوها، فحذَّر النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عن مثل ذلك؛ سدًّا للذريعة المؤدية إلى ذلك، وسد الذرائع في قبره عليه السَّلام).

وكان ذلك في مرض موته؛ إشارة إلى أنَّه من الأمر المحكم الذي لا ينسخ بعده، ولمَّا احتاجت الصَّحابة والتَّابعون رضي الله عنهم إلى زيادة مسجده عليه السَّلام؛ بنوا على القبر حيطانًا مرتفعة مستديرة حوله؛ لئلَّا يصلِّ إليه العوام، فيؤدِّي إلى ذلك المحذور، ثمَّ بنوا جدارين بين ركني القبر الشمالي، حرَّفوهما حتى التقيا، حتى لا يمكن أحد أن يستقبل القبر، انتهى.

قال إمام الشَّارحين: (ومطابقة الحديث للترجمة تؤخذ من قوله: «بنوا على قبره مسجدًا، وصوَّروا فيه تلك الصور»؛ لأنَّ الباب معقود في الصلاة في البيعة، وقد مرَّ أنَّها تكره الصلاة في البيعة إذا كانت فيها الصور) انتهى.

وزعم العجلوني والقسطلاني تبعًا لابن حجر أن وجه المطابقة في قوله: (بنوا على قبره مسجدًا)؛ فإن فيه الإشارة إلى نهي المسلم عن أن يصلي في الكنيسة؛ فيتخذها بصلاته مسجدًا، انتهى.

قلت: وهو قاصر؛ لأنَّ الباب معقود؛ لبيان جواز الصلاة في البيعة، مع عدم الكراهة إذا لم يكن فيها صور، وليس المراد منه النهي عن أن يتخذ المسلم الكنيسة بصلاته مسجدًا، فإنَّه لو كان كما قالوا؛ فلا دلالة في الحديث على الترجمة، فما قاله إمام الشَّارحين هو الصواب.

وفي الحديث: كراهة الصلاة في الكنيسة، وهو مذهب الإمام الأعظم، ومثلها البيعة، وبه قال الشافعية، وزعم الحنابلة أنَّ الصلاة غير مكروهة، والحديث حجة عليهم، وفيه النهي عن فعل التصاوير، وأنَّه حرام، سواء كان في حيوان أو غيره.

وفيه: منع بناء المساجد على القبور، وفيه: ذم فاعل المحرمات، وفيه: جواز حكاية ما يشاهده المرء من العجائب، ووجوب بيان حكم ذلك على العالم به، وفيه: أنَّ الاعتبار في الأحكام بالشرع لا بالعقل.

ومقتضى الأحاديث تدل على أنَّ الصور ممنوعة، ثم جاء: (إلا ما كان رقمًا في ثوب)؛ فخُصَّ من جملة الصور، ثم تثبت الكراهة فيه بقوله عليه السَّلام لعائشة في الثوب: «أخِّريه عني»، وفي «الصحيحين» عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم «أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة المصورون» : وهو يدلُّ على المنع من التصوير بشيء؛ أي شيء كان، ويستثنى من ذلك لعب البنات؛ لما ثبت عن عائشة: أنَّه عليه السَّلام تزوجها وهي بنت سبع (١)، وزُفَّت إليه وهي بنت تسع، ولُعَبُها معها، ومات عنها، وهي بنت ثمان عشرة، وعنها أيضًا قالت: (كنت ألعب بالبنات عند النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان لي صواحب يلعبن معي، وكان عليه السَّلام إذا دخل؛ يتقمعن منه، فيسريهن إلي؛ فيلعبن معي) أخرجهما مسلم في «صحيحه»، قال العلماء: وذلك للضرورة الداعية إلى ذلك وحاجة البنات حتى يتدربن على تربية أولادهن، انتهى.

قلت: هذا أمر باق إلى يومنا هذا؛ فإن البنات يجعلن شيئًا من الخروق وغيره، ويجعلنه كالبنات ويلعبن فيه البنات؛ فهو مستثنًى من النهي للحاجة، والله تعالى أعلم.

(٥٥) [باب....]

هذا (بابٌ)؛ بالتنوين ثابت لأكثر الرواة، ساقط في رواية الأصيلي، ولم يذكر له ترجمة عند من أثبته، وهو كالفصل من الباب الذي قبله، وله تعلُّق بذاك، ووجه تعلُّقِه أنَّ كلًّا منهما مشتمل على الزجر عن اتخاذ القبور مساجد، والتصوير مذكور هناك، وههنا يشير إلى أن اتخاذ القبور مساجد مذموم، سواء كان فعل ذلك بصور أم لا، كذا قرره إمام الشَّارحين.

[حديث: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد]

٤٣٥ - ٤٣٦ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا أبو اليَمان)؛ بفتح التحتية: هو الحَكَم-بفتحتين- ابن نافع الحمصي، البهراني، مولى امرأة من بهراء، المتوفى سنة إحدى أو اثنتين وعشرين ومئتين (قال أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة؛ بالمهملة، والزاي، دينار القرشي، الأموي، مولاهم: أبو بشر، (عن الزهري) هو محمد بن مسلم ابن شهاب المدني (قال: أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) بالتصغير (بن عبد الله) بالتكبير (بن عتْبة) بسكون الفوقية، هو ابن مسعود: (أن عائشة)؛ بفتح الهمزة، هي الصديقة بنت الصديق الأكبر (وعبد الله بن عبَّاس) بالنصب عطفًا على عائشة رضي الله عنهم (قالا) بالتثنية: (لما نزل)؛ بفتحتين، على صيغة المعلوم، في رواية أبي ذر، وفاعله محذوف؛ أي: الموت، وفي رواية غيره: بضمِّ النون، وكسر الزاي على صيغة المجهول.

وقوله: (برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) نائب فاعل، والنزلة كالزكام، قاله العجلوني.

قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ في تمثيله بالزكام سوء أدب في حقه عليه السَّلام؛ لأنَّه يلزم منه نزول أنفه عليه السَّلام، فربما يأنف منه من رآه، فيقع في محظور، وإنَّما النزلة مثل وجع رأس، أو ظهر، أو قلب، مما لم ينفر من رآه؛ فافهم.

وقوله: (طفِق) جواب (لمَّا) وهي بكسر الفاء، وقد تفتح (٢)، وقد تبدل باء موحدة.

قال إمام الشَّارحين: (وهو من أفعال المقاربة: وهي على ثلاثة أنواع؛ منها: ما وضع للدلالة على الشروع في الخبر، وأفعاله: أنشأ وطفق وجعل وعلق واحد، وتعمل هذه الأفعال عمل كان إلا أن خبرهن يجب كونه جملة، وحكى الأخفش طَفَق يَطْفِق، مثل ضرَب يضرِب


(١) في الأصل: (تسع)، والمثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (تكسر)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>