للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وطَفِق يَطْفَق، مثل علِم يعلَم، ولم يستعمل له اسم فاعل، واستعمل له مصدرًا، حكى الأخفش: طفوقًا؛ عمن قال: طَفق بالفتح، وطِفقًا بالكسر، ومعناه ههنا: جعل) انتهى.

قلت: واسمها عائد للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وخبرها جملة قوله: (يطرح خميصة)؛ بالنصب مفعول (يطرح)؛ وهي كساء له أعلام، أو علمان أسود مربع (له) جار ومجرور محله النصب صفة لـ (خميصة) (على وجهه) متعلق بقوله: يطرح، (فإذا اغتمَّ) بالغين المعجمة؛ أي: صار له غم، وأخذ بنفسه من شدة الحر الحاصل من طرحها على وجهه، وفي «القاموس»؛ الغم: شدة الحر كاد يأخذ بالنفس، انتهى.

قلت: فتفسير الشراح له: (تسخن) تفسيرٌ باللازم، قال الكرماني: ويقال: غمَّ يومنا؛ إذا كان يأخذ بالنفس من شدة الحر، انتهى؛ فافهم

(كشفها) أي: الخميصة (عن وجهه) الشريف، قلت: والظاهر أنَّها الكفية التي يستعملها الأعراب، والبغداديون، والمسافرون؛ لأجل دفع حر الشمس؛ فافهم.

(فقال) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (وهو كذلك) أي: وهو في تلك الحالة؛ أي: حالة الطرح والكشف عن وجهه، وهذا مقول الراوي.

وزعم ابن حجر ويحتمل أن يكون ذلك في الوقت الذي ذكرت فيه أم سلمة وأم حبيبة أمر الكنيسة التي رأتاها بأرض الحبشة.

ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا بعيد جدًّا لا يخفى على الفطن) انتهى.

قلت: ووجه بعده: أنَّ ظاهر لفظ الحديث يرده ويخالفه؛ لقوله: (فإذا اغتم؛ كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك) حيث أتى بـ (الفاء) التي للتعقيب، فعقب القول بالكشف على أنَّ هذا فيما ذكر في باب (هل تنبش قبور مشركي الجاهلية) والقصة هناك غير القصة ههنا، بدليل أنَّ التي ذكرت هناك هي أم سلمة وأم حبيبة، وههنا ذكرت عائشة وابن عبَّاس، مع اختلاف الألفاظ، فالتباين بينهما ظاهر لمن له أدنى ذوق في العلم؛ فافهم

ولا يقال: إنَّه قد ذكر ذلك في باب (الصلاة في البيعة)؛ لأنَّه حين ذكرت أم سلمة الكنيسة؛ فقال: «أولئك...» إلى آخره وهذا غير ذاك كما لا يخفى.

(لعنة الله) مبتدأ ومضاف إليه، وخبره: قوله (على اليهود والنصارى) واللعنة: الطرد والإبعاد عن الرحمة، يقال: لعنه الله، يلعنه لعنًا فهو ملعون، ولعين، ويقال: رجل لُعَنة؛ بفتح العين المهملة؛ أي: كثير اللعن، ولعْنة؛ بسكونها؛ أي: تلعنه الناس، وقال مجاهد: في قوله تعالى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَاّعِنُونَ} [البقرة: ١٥٩] قال: (دواب الأرض تلعنهم)، وقال ابن عبَّاس: (اللاعنون: كل شيء إلا الإنس والجن)، وقال قتادة: (هم الملائكة)، وقال عطاء: (الإنس والجن)، وقوله عليه السَّلام: «من أخفر مسلمًا؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»، وقوله عليه السَّلام: «اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، والظل، وقارعة الطريق»، سميت ملاعن؛ لأنَّ الناس يلعنون فاعل ذلك، فهي مواضع لعن، وقال تعالى: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} [الرعد: ٣١] هي: الشديدة من شدائد الدهر، ثم أتبعه عليه السَّلام ببيان سبب لعنهم فقال: (اتخذوا) أي: اليهود والنصارى (قبور أنبيائهم مساجد) فهي جملة مستأنفة بيانية لموجب لعنهم، وقال إمام الشَّارحين: كأنَّه جواب عن سؤال سائل، ما سبب لعنهم؟ فأجيب عنه بقوله: (اتخذوا)؛ يعني: القبور مساجد يعبدون أنبياءهم المدفونة بها.

وقوله: (يُحذِّر)؛ بتشديد الذال المعجمة المكسورة، وضم التحتية أوله، والفاعل (١) هو النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (أمته) أي: أمة الإجابة لا الدعوة؛ بدليل قوله: (ما صنعوا) أي: من اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد، جملة مستأنفة أخرى من كلام الراوي، لا من كلامه عليه السَّلام، وإنَّما كان يحذرهم من ذلك الصنيع؛ لئلا يفعل بقبره الشريف مثله، ولعلَّ الحكمة فيه: أنَّه يصير بالتدريج شبيهًا بعبادة الأصنام، وكلمة (ما) موصولة أو نكرة موصوفة، والعائد إليه محذوف تقديره: (صنعوه)، كما ثبت في نسخة، في محل نصب على المفعول الثاني لـ (يحذر)، ومفعوله الأول: محذوف يقدر بما قلناه، وضمير المرفوع عائد إلى اليهود والنصارى.

فإن قلت: استشكل ذكر النصارى في الحديث؛ لأنَّهم ليس لهم نبي إلا عيسى، ولا قبر له؛ لأنَّه حي في السماء.

قلت: يحتمل أنَّه من باب التغليب؛ حيث غلَّب اليهود على النصارى بجامع الكفر في كل منهما.

ويحتمل كونه على حذف جملة تقديره: اتخذت اليهود قبور أنبيائهم مساجد، واتخذت النصارى أمكنة عيسى مساجد، فإنَّهم قد اتخذوا مكان ولادته في بيت لحم، ومكان النخلة، ومكان مهده، وغير ذلك مساجد.

ويحتمل أنَّهم اتخذوا قبور الأنبياء السابقة مساجد؛ كداود وسليمان.

ويحتمل أنَّ المراد: الأنبياء وصالحو (٢) أتباعهم؛ حيث اكتفى بذكر الأنبياء عن ذكر صالحيهم على حد قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ} [النحل: ٨١]، ويؤيده ما في رواية مسلم من طريق جندب: «كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم»، ولهذا قال في النصارى حين أفردهم: «إذا مات فيهم الرجل الصالح»، وقال في اليهود حين أفردهم: «اتخذوا قبور أنبيائهم».

ويحتمل أنَّ المراد بالاتخاذ أعم من كونه ابتداعيًّا أو اتباعيًّا؛ لأنَّ اليهود ابتدعت والنصارى اتبعت، ولا ريب أنَّ النصارى تعظم قبور كثير من الأنبياء الذين تعظمهم اليهود؛ فتأمل.

وزعم ابن حجر فأجاب: بأنَّ للنصارى أنبياء غير عيسى، لكنهم ليسوا برسل؛ كالحواريين ومريم في قول.

ورده إمام الشَّارحين فقال: (وفيه نظر؛ لأنَّه جاء في رواية عن عكرمة وقتادة والزهري «أنَّ الثلاثة الذين أتوا إلى أنطاكية المذكورين في قوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: ١٤] كانوا رسلًا من الله تعالى، وهم: صادق ومصدوق وشلوم»، وعن قتادة أنَّهم كانوا رسلًا من عيسى عليه السَّلام، فعلى هذا؛ لم يكونوا أنبياء، فضلًا عن أن يكونوا رسلًا من الله تعالى، وأما مريم؛ فزعم ابن حزم وآخرون أنَّها نبية، وكذلك سارة أم إسحاق وأم موسى عليهم السلام، وعند الجمهور كما حكاه أبو الحسن الأشعري وغيره من أهل السنة والجماعة أنَّ النبوة مختصة بالرجال،


(١) زيد في الأصل: (نائب)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (وصالحي)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>