للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وهو الحكم الأخروي، ولا دليل على ما اختلف فيه، فبقي الثواب أو العقاب، وانتفى الصحة أو الفساد، وهذا مذهب إمامنا الأعظم وأصحابه: أبي (١) يوسف ومحمد وزفر، والثوري، والأوزاعي، والحسن بن حي، ومالك في رواية.

وكذا الغسل، وعند الأوزاعي والحسن التيمم أيضًا، وقال عطاء ومجاهد: إن صيام رمضان لا يحتاج إلى نية إلَّا أن يكون مسافرًا أو مريضًا، وقال مالك في رواية عنه وتلميذ الشافعي وتلميذه أحمد ابن حنبل: إنَّ النية في الأعمال كلِّها فرض لهذا الحديث، ولا دلالة لهم فيه لما علمت، وتمامه في شرحنا على «القدوري».

واختلف في (إنَّما) هل تفيد الحصر أم لا، وهل تفيده بالمنطوق أو بالمفهوم، وأصلها: (إنَّ) التوكيدية، دخلت عليها (ما) الكافة؛ وهي حرف زائد، وقيل: إنَّ (ما) نافية.

و (الباء) في (بالنيات) للمصاحبة أو للاستعانة، وقيل: للسببية، ولم يذكر سيبويه في معنى الباء إلَّا الإلصاق؛ لأنَّه معنى لا يفارقها.

و (النِّيَّات) بتشديد الياء: جمع نِيَّة؛ مِن نوى ينوي من باب ضرب، وهي لغة: القصد، وشرعًا: قصد الطاعة والتقرب إلى الله تعالى في إيجاد الفعل، وإنما قال: (الأعمال)، ولم يقل الأفعال؛ لأنَّ الفعل يكون زمانه يسيرًا، ولم يتكرر، بخلاف العمل؛ فإنَّه على الاستمرار، ويتكرر.

(وإنَّما لكلِّ امرِئ) : بكسر الراء، والمرء مثلث الميم: الإنسان أو الرجل، كما في «القاموس».

(ما نوى)؛ أي: الذي نواه أو نيته، وكذا لكل امرأة ما نوت؛ لأنَّ النساء شقائق الرجال، وهذه الجملة تأكيد للجملة السابقة، وحمله على التأسيس أولى؛ لإفادته معنى لم يكن في الأولى، وما ذكره بعض الشراح فليس بشيء؛ فافهم.

(فمن كانت هِجرته) : بكسر الهاء؛ أي: خروجه من أرضٍ إلى أرض، (إلى دنيا يصيبها) : جملة محلها الجر؛ صفة لدنيا؛ أي يحصِّلُها، (أو إلى امرأة) ولأبي ذر: (أو امرأة)، (ينكحها) أي: يتزوجها كما في الرواية الأخرى، (فهجرته) بالكسر؛ أي: خروجه، (إلى ما هاجر إليه) : من الدنيا والمرأة، والجملة: جواب الشرط في قوله: (فمن).

وسبب هذا الحديث: قصة مُهاجر أمِّ قيس، المروية في «معجم الطبراني الكبير» بإسناد رجاله ثقات من رواية الأعمش، ولفظه عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها: أم قيس؛ فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر؛ فهاجر فتزوجها، قال: فكنا نسميه مهاجر أم قيس.

قال في «شرح الأربعين» : ولم نر له أصلًا بإسناد يصح.

قال بعض الشراح: ولم يسم الرجل؛ فتأمل.

والمهاجرة المذمومة؛ إذا كانت على هذه الصفة، أما من هاجر من دار الكفر وتزوَّج (٢) المرأة؛ فإنه لا يكون مذمومًا.

و (الدُّنيا) بضم الدال: مقصورة غير منونة للتأنيث والعلمية، وقد تكسر وتنون، قال في «القاموس» : (الدنيا ضد الآخرة، وقد تنون، وجمعها: دنى) اهـ، وإنما سميت بذلك لدنوِّها؛ أي: قربها من الزوال.

وفيه الرواية بالتحديث، والإخبار، والسماع، والعنعنة.

وأخرجه المؤلف في (الإيمان)، و (العتق)، و (الهجرة)، و (النكاح)، وستأتي بقية الكلام عليه إن شاء الله تعالى، واحتج بهذا الحديث الإمام الأعظم، ومالك، وأحمد: في أنَّ من أحرم بالحج في غير أشهر الحج؛ أنَّه لا ينعقد عمرة؛ لأنَّه لم ينوها، وخالفهم (٣) الشافعي، واحتج به أيضًا الإمام الأعظم، ومالك، والثوري: أنَّ الرجل يصح حجه عن غيره ولا يصح عن نفسه، خلافًا للشافعي، وأحمد، والأوزاعي.

[حديث: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي]

٢ - وبالسند إلى المؤلف، قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي، المتوفى سنة ثماني (٤) عشرة ومئتين، وفي (يوسف) : تثليث السين مع الهمز وتركه، ومعناه بالعبرانية: جميل الوجه، (قال: أخبرنا مالك)؛ هو ابن أنس الأصبحي، صاحب «الموطأ»، المتوفى سنة تسع وسبعين ومئة، وهو أحد مشايخ محمد ابن إدريس الشافعي.

(عن هشام بن عروة) بن الزبير بن العوام القرشي، المتوفى سنة خمس وأربعين ومئة ببغداد، (عن أبيه)؛ أبي عبد الله عروة، المتوفى سنة أربع وتسعين، (عن عائشة) بالهمز، وعوام المحدثين يبدلونها ياء (أم المؤمنين رضي الله عنها) : قال تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: ٦]؛ أي: في الاحترام، والإكرام، وتحريم نكاحهن، والخلوة بهن، والمسافرة معهن، وتحريم نكاح بناتهن، والنظر إليهن، وهل يقال للنبي: أبو المؤمنين؟ فيه خلاف، فالمانع استدل بقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} [الأحزاب: ٤٠].

وأجاب المجيز بأن معناه: من رجالكم لصلبه. انتهى.

وهل عائشة أفضل من فاطمة؟ فيه خلاف، والأصح: أن عائشة أفضل، وجمع بأن فاطمة أفضل في الدنيا وعائشة أفضل في الآخرة، {وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ} [البقرة: ١٠٥]، واختلف في وفاتها بعد الخمسين: إما سنة خمس، أو ست، أو سبع في رمضان، وعاشت خمسًا (٥) وستين سنة، وتوفي عنها رسول الله وهي بنت ثماني عشرة، وأقامت عنده تسعًا (٦)، وقيل: ثماني سنين، ولها في «البخاري» مئتان واثنان وأربعون حديثًا.

(أن الحرث بن هشام) بغير ألف بعد الحاء (٧) : المخزومي؛ أسلم يوم الفتح، واستشهد بالشام سنة خمس عشرة، (رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال القسطلاني: يحتمل أن تكون عائشة حضرت ذلك فيكون من مسندها، وأن يكون الحرث أخبرها بذلك فيكون من مرسل الصحابة؛ وهو محكومٌ بوصله عند الجمهور. انتهى، قلت: والظاهر الأول؛ فليحفظ.

(فقال: يا رسول الله؛ كيف يأتيك الوحي؟)؛ أي: صفة الوحي نفسه، أو صفة حامله، أو أعم، فإسناد الإتيان إلى الوحي مجاز.

(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) : ولأبوي ذر والوقت: (قال رسول الله عليه السلام) : (أحيانًا)؛ أي: أوقاتًا؛ بالنصب على الظرفية، وعامله: (يأتيني) مؤخر عنه؛ أي: يأتيني الوحي إتيانًا (مثل) بالنصب: حال؛ أي: يأتيني مشابهًا صوتُه (صَلْصَلة الجرس)؛ بمهملتين مفتوحتين بينهما لام ساكنة. و (الجرس)؛ بالجيم والمهملة: الجلجل الذي يعلق في رؤوس الدواب، والصلصلة: صوت حفيف أجنحة الملك؛ لما في الرواية الأخرى: (كأنه سلسلة على صفوان)، وإنما يقدمه حتى يفرغ من العمل، فيأتيه وهو خال عن الشغل (وهو أشده علي) الواو للحال، (فيَفْصِم عني) الوحي والملك، بفتح المثناة التحتية، وسكون الفاء، وكسر المهملة، كذا لأبي الوقت، من باب ضرب، والمراد: أنه ينجلي ما يغشاه من الشدة.

(وقد وعَيت) بفتح العين؛ أي: فهمت (عنه) عن الملك (ما قال)؛ أي: القول الذي قاله.

واعلم أن الصوت له جهتان؛ جهة قوة، وجهة طنين، فمن حيث القوة وقع التشبيه به، ومن حيث الطنين وقع التنفير عنه.

وفي «الطبراني» مرفوعًا: إذا تكلم الله بالوحي؛ أخذت السماء رجفة أو رعدة شديدة من خوف الله تعالى، فإذا سمع أهل السماء؛ صعقوا وخروا سجدًا، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فينتهي به إلى الملائكة، كلما مرَّ بسماء؛ سأله أهلها: ماذا قال ربنا؟ قال: الحق، فينتهي به حيث أمره الله من السماء والأرض.

(وأحيانًا)؛ أي: أوقاتًا (يتمثَّل)؛ أي: يتصوَّر (لي) لأجلي (الملك) جبريل (رجلًا) كدحية أو غيره، منصوب بنزع الخافض على الصواب، وقيل: على المصدرية، وقيل: على التمييز، وقيل: على المفعولية، والملائكةُ: أجسامٌ علوية لطيفة تتشكل بأي شكل شاء.

وقالت الفلاسفة: هي جواهر قائمة بنفسها، والحق: أنَّ تمثل الملك رجلًا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلًا؛ بل معناه: أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسًا لمن يخاطبه، والظاهر: أن القدر الزائد لا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط، انتهى.

ولأبي الوقت: (يتمثل لي الملك على مثال رجل).

(فيكلمني فأعي)؛ أي: أفهم (ما يقول)؛ أي: الذي يقوله، فالعائد محذوف، و (الفاء) في الكلمتين: للعطف المشير للتعقيب، ووقع التغاير بين قوله: (وعيت فأعي)؛ لأنَّ الوعي في الأول: حصل قبل الفصم ولا يتصور بعده، وفي الثاني: في حالة المكالمة ولا يتصور قبلها، ومن الوحي: الرؤيا الصادقة، قيل: إنَّ جبريل نزل على نبينا عليه السلام أربعة وعشرين ألف مرة، وعلى آدم: اثنتي عشرة مرة، وعلى إدريس: أربعًا، وعلى نوح: خمسين، وعلى إبراهيم: اثنتين وأربعين مرة، وعلى موسى أربع مئة مرة، وعلى عيسى: عشرًا، كذا في القسطلاني عن «تفسير ابن عادل».

وبالإسناد السابق: (قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته) صلى الله عليه وسلم، والواو للقسم، واللام للتأكيد؛ أي: والله لقد أبصرته، (يَنزِل) : بفتح أوله وكسر ثالثه، ولأبي ذر والأصيلي: (يُنزَل) بالضم والفتح، (عليه) عليه السلام، (الوحي في اليوم الشديد البرد فيَفصِم) بفتح المثناة التحتية وكسر الصاد، ولأبوي ذر والوقت: (فيُفصِم)؛ بضمها وكسر الصاد، من أفصم الرباعي؛ وهي لغة قليلة؛ أي: ينجلي (عنه) عليه السلام.

(وإن جبينه) : قيل: الجبين غير الجبهة؛ وهو ما فوق الصدغ، والصدغ: ما بين العين والأذن، والظاهر: أن الجبين هو أعلى الجبهة من جهة الرأس، (ليتفصد) بالفاء والصاد المهملة المشددة؛ أي: ليسيل (عرَقًا) بفتح الراء: رشح الجلد من كثرة التعب عند نزول الوحي؛ لأنَّه أمر طارئ زائد على الطباع البشرية.

ورواته مدنيون إلَّا شيخ المؤلف، وفيه تابعيان، والتحديث، والإخبار، والعنعنة، وأخرجه المؤلف في (بدء الخلق)، ومسلم في (الفضائل).

[حديث: أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة]

٣ - ٤ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا)، ولأبي ذر بواو العطف (يحيى) أبو زكريا بن عبد الله (ابن بُكير) بضم الموحدة؛ تصغير (بكر) المخزومي المصري، المتوفى سنة إحدى وثلاثين ومئتين، ونسبه المؤلف لجده لشهرته به.

(قال: حدثنا الليث) بالمثلثة؛ ابن سعد الفهمي عالم أهل مصر، من تابع التابعين، المتوفى سنة خمس وسبعين ومئة، وكان من أتباع الإمام الأعظم على التحقيق، وما قيل: إنه مجتهد؛ تعصُّب، قال الشافعي: الليث أفقه من مالك. انتهى، إلَّا أنه كان حنفي المذهب؛ فليحفظ.

(عن عُقَيل) بضم العين المهملة وفتح القاف مصغر، ابن خالد ابن عَقيل؛ بفتح العين، الأَيْلي؛ بفتح الهمزة وسكون المثناة التحتية، الأموي، المتوفى سنة إحدى وأربعين ومئة، (عن ابن شهاب) أبي بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري، تابعي صغير، ونسبه المؤلف لجده الأعلى لشهرته، المتوفى بالشام سنة ست وتسعين ومئة، (عن عروة بن الزُبير) بضم الزاي؛ مصغر ابن العوام، (عن عائشة أم المؤمنين) رضي الله عنها وعن أبيها: (أنها قالت: أول ما بُدِئ به) بضم الموحدة وكسر الدال (رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي) أي: من أقسام الوحي، من ربه إليه: (الرؤيا الصالحة في النوم)، قيل: الحديث من المراسيل، والظاهر أنها سمعت ذلك من النبي عليه السلام، وإنما كانت الرؤيا من الوحي؛ لأنَّه لا مدخل للشيطان فيها، وفي رواية: (الصادقة) بدل (الصالحة)؛ وهي التي ليس فيها ضغث، وكانت مدة الرؤيا ستة أشهر، واحترز بقوله: (من الوحي) عما رآه من دلائل النبوة من غير وحي؛ كتسليم الحجر عليه كما في «مسلم»، وأوله ما سمعه من بحيرا الراهب


(١) في الأصل: (أبو).
(٢) في الأصل: (وتزويج).
(٣) في الأصل: (خالهم).
(٤) في الأصل: (ثمان).
(٥) في الأصل: (خمس).
(٦) في الأصل: (تسع).
(٧) كذا قال، وهكذا ترسم ولكن المحدِّثين يلفظونها: «الحارث».

<<  <   >  >>