للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

كما قدمناه للحديث، وهو قول أحمد ابن حنبل كما صرح به صاحب «المنتهى»، والسترة عنده؛ كما عند الحنفية والشَّافعية، وهو قول الثَّوري وعطاء، ومن المعلوم أنَّ الصلاة بدون سترة صحيحة، لكنها مكروهة؛ فانظر كيف حصر ابن بطال الجواز في الشَّافعي من عدم اطلاعه على الأحكام في المذاهب، وقدمنا الكلام عليه فيما سبق؛ فافهم.

(٩٤) [باب السترة بمكة وغيرها]

هذا (باب) حكم (السترة) المركوزة بين المصلى وبين الكعبة (بمكة وغيرها)؛ أي: من سائر الأماكن؛ لدرء المارين عنه، والمراد بالحكم الاستحباب؛ لحديث الباب.

قال إمام الشَّارحين: (إنَّما قيد بمكة؛ دفعًا لما يتوهم أنَّ السترة قبلة، ولا ينبغي أن يكون لمكة قبلة إلا الكعبة، فلا يحتاج فيها إلى سترة، وكل من يصلِّي في مكان واسع؛ فالمستحب له أن يصلِّي إلى سترة بمكة كان أو غيرها، إلا أن يصلِّي بمسجد مكة بقرب القبلة حيث لا يمكن لأحد المرور بينه وبينها، فلا يحتاج إلى سترة؛ إذ قبلة مكة سترة له، فإن صلى في مؤخر المسجد بحيث يمكن المرور بين يديه، أو في سائر بقاع مكة إلى غير جدار أو شجرة أو ما أشبهها؛ فينبغي له أن يجعل أمامه ما يستره من المرور بين يديه، كما فعل الشَّارع حين صلى بالبطحاء إلى عنزة، والبطحاء خارج مكة) انتهى.

[حديث: خرج رسول الله بالهاجرة فصلى بالبطحاء]

٥٠١ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا سليمان بن حَرْب) بفتح المهملة، وسكون الرَّاء، ضد الصلح (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج، (عن الحَكَم)؛ بفتحتين: هو ابن عتيبة -بالتصغير-، التَّابعي الصغير الكوفي، (عن أبي جُحيفة)؛ بِضَمِّ الجيم مصغرًا: هو وهب بن عبد الله السُّوائي الكوفي (قال) وفي رواية: (يقول) : (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم) : يحتمل أنَّه من حجرته أو من مكة، وفي رواية تقدمت في باب (استعمال فضل وضوء الناس) : أنَّ خروجه كان من قبة حمراء من أدم بالأبطح (بالهاجرة)؛ أي: في سفر؛ وهي وقت اشتداد الحر في وسط النهار، (فصلى بالبطحاء)؛ أي: بطحاء مكة، ويقال: الأبطح أيضًا، وهو خارج مكة (الظُّهر والعصر)؛ أي: أنَّه صلى الظُّهر أولًا، ثم دخل وقت العصر فصلاه؛ لأنَّ خروجه ووضوءه وصلاته الظُّهر يحتاج إلى مدة طويلة تستغرق وقت الظُّهر، فلما فرغ منها أو في أثنائها؛ دخل وقت العصر فصلاه، فليس فيه أنَّه جمع بينهما كما زعمه بعض الناس؛ لأنَّه مخالف لعادته عليه السَّلام؛ فافهم، وقوله: (ركعتين) : يتعلق بكل واحد من الظُّهر والعصر؛ أي: كل واحدة منهما ركعتين قصرًا للسفر، (ونَصَبَ)؛ أي: أمر أن ينصب، وفي نسخة: بالبناء للمفعول (بين يديه) بالتثنية؛ أي: أمامه (عَنَزَة)؛ بفتح المهملة والنُّون والزاي: أقصر من الرمح، وأطول من العصا، وفيها زُجٌّ كزج الرمح، وإنَّما صلى إليها؛ لأنَّه عليه السَّلام كان في الصحراء، فإنَّ الصلاة في المسجد الكبير لا تحتاج إلى سترة، غاية ما فيه أنَّه يحرم المرور في موضع سجوده، وحد المسجد: أن يكون أربعين ذراعًا في أربعين ذراعًا؛ فافهم.

(وتوضأ)؛ أي: وضوءه للصلاة، ويحتمل في هذه الواو أن تكون للحال، ويحتمل أن تكون للعطف، وعلى الثاني لا يقال: كيف نصب العنزة والوضوء قبل الصلاة؟ فكيف عكس؟ لأنَّا نقول: إنَّ الواو للعطف لمطلق الجمع لا تفيد ترتيبًا، ولا تعقيبًا، ولا معية؛ كما هي الأصل، كما في قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ...}؛ الآية [المائدة: ٦]، وقوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ...}؛ الآية [آل عمران: ٥٥]، وأمثال ذلك في الفصيح كثير، (فجعل الناس) أي: الصَّحابة (يتمسحون بوَضوئه)؛ بفتح الواو؛ أي: الماء الذي بقي بعد فراغه من الوضوء، وكأنَّهم اقتسموه بينهم، أو كانوا يتناولون من الذي يتقاطر حين التوضؤ، والأول أظهر بالسياق، وإنَّما كان تمسحهم به؛ لأجل التَّبرك به؛ لكونه مس جسده الشَّريف المقدس، ففيه: بيان أنَّ الماء المستعمل طاهر، وعلى الأول فالماء طاهر مع ما حصل له من التَّشريف والبركة بوضع يده فيه، والتَّمسح تفعل، كأنَّ كل واحد منهم مسح به وجهه ويديه مرة بعد أخرى؛ كقوله تعالى: {يَتَجَرَّعُهُ} [إبراهيم: ١٧]؛ أي: يشربه جرعة بعد أخرى، أو هو من باب التكلف؛ لأنَّ كل واحد منهم لشدة الازدحام على فضل وضوئه كان يتعنَّى لتحصيله، ويتكلف بتناوله، كـ (تشجَّع) و (تصبَّر)، وجملة (يتمسحون) : في محل نصب خبر (جعل) الذي هو من أفعال المقاربة.

ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة من قوله: (فصلى بالبطحاء)؛ لأنَّها في مكة، ولمَّا كان فضاء؛ نُصِب له بين يديه عنزة، فصلى إليها، وقد سبق في الباب قبله وفي باب (استعمال فضل وضوء الناس).

وفيه: التَّبرك بآثار الصالحين.

وفيه: استحباب وضع العنزة أمام المصلي في الصحراء؛ لدرء المارِّين.

قال ابن بطال: (المعنى في السترة للمصلي: دفع المارِّ بين يديه، فمن صلى في مكان واسع؛ فالمستحب له أن يصلِّي إلى سترة بمكة أو غيرها، ويكره له ترك ذلك) انتهى.

وزعم ابن حجر: (إنَّ الذي أظنه أنَّ البخاري أراد أن ينكت على ما ترجم به عبد الرزاق بـ «باب لا يقطع الصلاة بمكة شيء»، ثم أخرج عن المطلب أنَّه قال: «رأيت النَّبي صلى الله عليه وسلم يصلِّي في المسجد الحرام ليس بينه وبينهم -أي: الناس- سترة»، وأخرجه أيضًا أصحاب «السنن»، وهو معلول وإن كان رجاله موثَّقين فأراد البخاري التنبيه على ضعف هذا الحديث، وأنَّه لا فرق بين مكة وغيرها في مشروعية السترة، وهذا هو المعروف عند الشَّافعية، ولا فرق في منع المرور بين يدي المصلي بين مكة وغيرها، واغتفر بعض الفقهاء ذلك للطَّائفين دون غيرهم للضرورة، وعن بعض الحنابلة: جواز ذلك في جميع مكة) انتهى.

قلت: وفيه نظر، فإنَّ المؤلف في بيان أحكام سترة المصلي، ومن جملة المصلين المصلي بمكة، فأشار بترجمته إلى دفع ما يتوهم أنَّ مكة لا يحتاج المصلي فيها إلى سترة؛ لقرب القبلة إليه، وأراد أنَّه لا فرق في وضع السترة بين مكة وغيرها.

وكونه أشار إلى ضعف الحديث؛ ممنوع؛ لأنَّه لم يشر إليه في شيء، فهو بعيد عن النَّظر على أنَّه كيف يقول: رجاله موثَّقون، ويقول: إنَّه معلول، فهذا تناقض في الكلام والمعاني، وكون ما ذكره المعروف عند الشَّافعية، كذلك هو المعروف عند الأئمة الحنفية والمالكية، وإنَّما اغتفر بعض الفقهاء ذلك للطَّائفين، لم يبين ما هم، ولعل وجهه أن المسجد كبير حينئذٍ لا يحتاج إلى سترة، أو أنهم يصلُّون في مكان من جهة القبلة بحيث لا سبيل للمارِّين إليه، وتعليله بالضرورة فيه نظر؛ إذ لا ضرورة فيه، والله أعلم.

(٩٥) [باب الصلاة إلى الأسطوانة]

هذا (باب) حكم (الصلاة) مطلقًا (إلى) جهة (الأُسْطُوانة) إذا كان في موضع فيه أُسطُوانة، وهي بِضَمِّ الهمزة والطاء المهملة، وسكون المهملة بينهما؛ وهي السارية، معرَّب أستون، قال إمام الشَّارحين:

<<  <   >  >>