للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

فكان هرقل يعلم حساب النجوم أن المولد بقِرَانِ العلويين ببرج العقرب؛ وهما يقترنان في كل عشرين سنة مرة إلى أن تستوفي الثلاثة بروجها في ستين سنة، وكان ابتداء العشرين الأول للمولد، وعند تمام العشرين الثانية مجيء جبريل، وعند الثالثة فتح خيبر، وليس المراد بهذا تقوية قول الحساب؛ بل البشارة به عليه السلام، والجملة اعتراضية.

(فقال) هرقل (لهم)؛ أي: لبعض البطارقة (حين سألوه: إنِّي رأيت الليلة حين نظرت في النجوم مَلِك الختان)؛ بفتح الميم وكسر اللام، وفي رواية: بالضم ثم الإسكان (قد ظهر)؛ أي: غلب؛ لأنَّ في تلك الأيام كان ابتداء ظهوره؛ لأنَّه صالح الكفار بالحديبية عليه السلام، وأنزل الله سورة الفتح، (فمن) استفهامية (يختن من هذه الأمة؟)؛ أي: من أهل هذه الملل، وفي رواية: (الأمم) (قالوا: ليس يختن إلا اليهود)؛ لأنَّهم كانوا بإيلِياء (فلا يُهمنَّك) بضم المثناة تحت: من (أهم)؛ أي: لا يقلقنك (شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك) بالهمز وقد يترك؛ (فيقتلوا من فيهم من اليهود)، وفي رواية: (فليقتلوا)؛ باللام.

(فبينما هم) بالميم، وأصله (بين)، فأشبعت الفتحة فصار (بينا)، فزيدت الميم، وفي رواية: بغير ميم، ومعناهما واحد، و (هم)؛ مبتدأ خبره (على أمرهم) مشورتهم (أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسَّان)؛ بالغين المعجمة والسين المهملة المشددة، واسم الملك الحارث ابن أبي شمر، و (غسان) اسم ماء نزل عليه قوم من الأزد؛ فنسبوا إليه، ولم يسم الرجل ولا من أرسل به (يخبره عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فقال: خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبي، فقد اتبعه ناس وصدقوه وخالفه ناس؛ فكانت بينهم ملاحم في مواطن وتركتهم وهم على ذلك، (فلما استخبره هرقل) وأخبره؛ (قال) لجماعته: (اذهبوا فانظروا) إلى الرجل (أمختَتِن هو) بهمزة الاستفهام وفتح المثناة الفوقية الأولى وكسر الثانية (أم لا؟ فنظروا إليه)، وفي رواية: (فجردوه؛ فإذا هو مختتن)، (فحدثوه) أي: هرقل (أنه مختَتِن)؛ بفتح الفوقية الأولى وكسر الثانية، (وسأله عن العرب)؛ هل يختتنون؟ (فقال)؛ أي: الرجل: (هم يختتنون)، وفي رواية: (مختتنون)، والأول أشمل؛ كما قاله الإمامان العيني والعسقلاني، (فقال هرقل: هذا) الذي نظرته في النجوم (مُلْك هذه الأمة)؛ أي: العرب (قد ظهر) بضم الميم وسكون اللام، وفي رواية: بالفتح ثم الكسر، واسم الإشارة للنبي عليه السلام؛ وهو مبتدأ خبره (ملك)، و (قد ظهر) حال، وفي رواية: (وحده يملك) وتمامه في «شرح الإمام بدر الدين العيني».

(ثم كتب هرقل إلى صاحب له) يسمى ضغاطر الأسقف (بروميَة) بالتخفيف، وفي رواية: (بالرومية)؛ وهي مدينة رئاسة الروم، قيل: إن دور سورها أربعة وعشرون ميلًا، (وكان نظيره)، وفي رواية: (وكان هرقل نظيره) (في العلم) الشامل للنجوم والكتب، لكن الأول أظهر.

(وسار هرقل إلى حمص) مجرور بالفتحة؛ لأنَّه غير منصرف؛ للعلمية والتأنيث؛ وهي دار ملكه بالشام، وبها دفن خالد بن الوليد رضي الله عنه، (فلم يَرِم) هرقل؛ بفتح المثناة تحت وكسر الراء (حمص)؛ أي: لم يصل إليها، والظاهر أن يقال: وأراد هرقل المسير إلى حمص ولم يبرح (حتى أتاه كتاب من صاحبه) ضغاطر (يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم) أي: ظهوره (وأَنه نبي) بفتح الهمزة، وهذا يدل على أنَّ هرقل وصاحبه أقرَّا بنبوته، لكن هرقل لم يستمر على ذلك، بل رغب في الرئاسة، فأعرض عن الإسلام، وأما صاحبه؛ فأظهر الإسلام ودعاهم إليه فقتلوه.

(فأذن) بالقصر؛ من الإذن، وفي رواية: (فآذن) بالمد؛ أي: أعلم (هرقل لعظماء الروم) جمع عظيم (في دَسْكَرَة)؛ بمهملتين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة، وفتح الكاف والراء، كائنة (له بحمص)؛ أي: فيها، والدسكرة: القصر حوله بيوت، (ثم أمر بأبوابها)؛ أي: الدسكرة (فغلِّقت) بتشديد اللام، وكان دخلها ثم أغلقها، وفتح أبواب البيوت التي حولها، وأذن للروم في دخولها، ثم أغلقها عليهم، (ثم اطلع) عليهم من مكانه العالي؛ خوفًا منهم أن يقتلوه فخاطبهم (فقال: يامعشر الروم؛ هل لكم) رغبة (في الفلاح والرَُّشَد)؛ بضم الراء ثم السكون أو بفتحتين: خلاف الغي، (وأن يثبت)؛ بفتح الهمزة: مصدرية (ملككم، فتُبَايعوا)؛ بمثناة فوقية مضمومة، ثم موحدة، بعدها ألف ومثناة تحتية: منصوب بحذف النون بـ (أن) مقدرة في جواب الاستفهام، وفي رواية: (فبايعوا) بإسقاط المثناة قبل الموحدة، وفي رواية: (نبايع) بنون الجمع ثم موحدة، وفي أخرى: (نتابع) بنون الجمع أيضًا، ثم مثناة فوقية، فألف، فموحدة، وفي رواية: (فتتابعوا) بمثناتين فوقيتين، وبعد الألف موحدة، وفي رواية: (فنتبع) (هذا النبي) وفي رواية: باللام، وفي أخرى: (صلى الله عليه وسلم)، وإنما قال هذا؛ لما علم من الكتب: أن التمادي على الكفر سبب لذهاب الملك.

(فحاصوا) بمهملتين؛ أي: نفروا (حيصة حمر الوحش)؛ أي: كحيصتها (إلى الأبواب) المعهودة، (فوجدوها قد غُلِّقت)؛ بضم الغين المعجمة وكسر اللام مشددة، وإنما شبه نفرتهم بنفرة حمر الوحش؛ لأنَّها أشد نفرة من سائر الحيوانات، وقول ابن حجر: (شبههم بالحمر لمناسبة الجهل)؛ فيه نظر ظاهر لا يخفى على من له أدنى نظر في علمي المعاني والبيان، (فلما رأى هرقل نفرتهم) وأنهم ربما قتلوه، (وأيس)؛ بهمزة ثم مثناة تحتية، جملة حالية بتقدير: قد، وفي رواية: بتقديم الياء على الهمزة، وهما بمعنًى، والأول مقلوب من الثاني؛ أي: قنط (من الإيمان)؛ أي: من إيمانهم ومن إيمانه أيضًا؛ لكونه شح بملكه؛ (قال) هرقل لخدامه: (ردوهم عليَّ) بفتح المثناة تحت؛ أي: إلى محل الخطاب (وقال) لهم: (إنِّي قلت مقالتي آنفًا) بالمد مع كسر النون، وقد تقصر منصوب على الظرفية لا على الحال؛ كما توهم (أختبر)؛ أي: أمتحن (بها) الجملة حال (شدتكم)؛ أي: رسوخكم (على دينكم) إنَّما أضاف الدين إليهم؛ إشارة إلى أن له خاطرًا في الدخول في الإسلام ومنعه حب الرئاسة، (فقد رأيت) أي: شدتكم، فحذف المفعول؛ للعلم به، وفي رواية: (فقد رأيت منكم الذي أحببت)، (فسجدوا له)؛ حقيقة على عادتهم لملوكهم أو قبَّلوا الأرض بين يديه، (ورضوا عنه) بأن سكنت نفرتهم، (فكان ذلك آخرَ) بالنصب خبر (كان) (شأن هرقل) فيما يتعلق بهذه القصة أو فيما يتعلق في أمر الإيمان، فإنه قد وقعت له أمور من تجهيز الجيش إلى مؤتة سنة ثمان، وتبوك، ومحاربته للمسلمين؛ وهذا يدل على استمراره على الكفر، لكن يحتمل مع ذلك أنه كان يضمر الإيمان ويفعل هذه المعاصي؛ مراعاة لمملكته وخوفًا من أن يقتلوه؛ كما قتلوا ضغاطر، لكن في «مسند أحمد» : أنه كتب من تبوك إلى النبي عليه السلام: أنَّي مسلم، قال النبي عليه السلام: «كذب؛ بل هو على نصرانيته..» الحديث، {إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: ٤].

(رواه)؛ أي: حديث هرقل، وفي رواية بالواو، وفي رواية: (قال محمد -أي: البخاري- رواه) (صالح بن كَيسان)؛ بفتح الكاف: أبو محمد أو أبو الحارث الغِفَاري؛ بكسر الغين المعجمة مخفف الفاء، المدني، المتوفى سنة خمس وأربعين ومئة، عن مئة ونيف وستين سنة؛ كذا قيل، (و) رواه أيضًا (يونس) بن يزيد الأيلي (و) رواه (مَعمَر)؛ بفتح الميمين بينهما عين ساكنة: ابن راشد؛ الثلاثة عن الزهري، وأخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.

ومناسبة الحديث هنا من حيث أوصاف من يوحى إليه، ومن قصة هرقل؛ لتضمنها حال النبي عليه السلام في ابتداء الأمر، ولا يخفى مناسبة القصة؛ لما يذكره من كتاب الإيمان؛ وهو أول فرض على المكلف، فقال:

((٢)) [كتاب الإيمان]

(بسم الله الرحمن الرحيم)

واختلفت الروايات في تقديمها هنا على (كتاب) أو تأخيرها عنه ولكل وجه.

(كتاب الإيمان) وإنما لم يقل في الأول: (كتاب بدء الوحي)؛ لأنَّه كالمقدمة، فـ (الكتاب) مصدر بمعنى: الكتب؛ وهو الجمع والضم، فاستعمل جامعًا للأبواب والفصول، وجمعه (كُتُب) بضمتين، و (كُتْب)؛ بسكون المثناة الفوقية، والضمُّ فيه بالنسبة إلى الحروف المكتوبة حقيقة، وبالنسبة إلى المعاني المرادة منها مجاز (١)، وسميت الكتابة كتابة؛ لأنها جمع الحروف والكلمات.

و (الإيمان) بكسر الهمزة لغةً: التصديق؛ أي: إذعان حكم المخبِر، وقبوله، وجعله صادقًا؛ (إفعال) من الأمن؛ فإن حقيقة (آمن به)؛ آمنه من التكذيب والمخالفة، وتعدَّى بـ (اللام) في قوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} [يوسف: ١٧]؛ أي: بمصدق، وبـ (الباء) كما في قوله عليه السلام: «الإيمان أن تؤمن بالله...» الحديث؛ أي: تصدق، وليس حقيقة التصديق أن يقع في القلب نسبة الصدق إلى الخبر أو المخبر عن غير إذعان وقبول؛ بل هو إذعان وقبول لذلك؛ بحيث يقع عليه اسم التسليم على ما صرح به الغزالي، كذا قرره العلامة الثاني سعد الدين التفتازاني.

(١) [بابُ الإِيمَانِ، وقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ»]

هذا (باب قول النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الآتي موصولًا: (بني الإسلام على خمس) وفي رواية: بإسقاط لفظ (باب)، وفي رواية: (باب الإيمان وقول النبي...) إلى آخره.

و (الإسلام) لغةً: الانقياد والخضوع، ولا يتحقق إلَّا بقبول الأحكام والإذعان؛ وذلك حقيقة التصديق، فالإيمان لا ينفك عن الإسلام حكمًا، فهما متحدان في التصديق وإن تغايرا بحسب المفهوم؛ فمفهوم الإيمان تصديق القلب، ومفهوم الإسلام إعمال الجوارح، وبالجملة: لا يصح أن يحكم على أحد أنه مؤمن وليس بمسلم، أو مسلم وليس بمؤمن؛ وهذا معنى الوحدة.

فإن قيل: قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: ١٤] صريح في تحقق الإسلام بدون الإيمان.

قلنا: المراد أن الإسلام المعتبر في الشرع لا يوجد بدون الإيمان، وهو في الآية بمعنى الانقياد في الظاهر من غير انقياد الباطن بمنزلة المتلفظ بالشهادة من غير تصديق في باب الإيمان؛ فافهم.

(وهو)؛ أي: الإيمان عند المؤلف ومالك والثوري: (قول) باللسان؛ وهو النطق بالشهادتين (وفعل) وفي رواية: (وعمل) بدل (فعل)؛ وهو أعم من عمل القلب والجوارح؛ لتدخل الاعتقادات والعبادات؛ فهو اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، والمراد أنَّ الأعمال شرط لكماله، وقالت الأئمة الماتريدية: الإيمان في الشرع هو التصديق بما جاء [به] النبي الأعظم عليه السلام من عند الله تعالى والإقرار به؛ أي: بما جاء من عند الله باللسان، إلا أن التصديق ركن لا يحتمل السقوط أصلًا، والإقرار قد يحتمله؛ كما في حالة الإكراه.

فإن قيل: قد لا يبقى التصديق كما في حالة النوم والغفلة.

قلنا: التصديق باق في القلب، والذهول إنَّما هو عن حصوله، ولو سلم، فالشارع جعل المحقق الذي لم يطرأ عليه ما يضاده في حكم الباقي، حتى كان المؤمن اسمًا لمن آمن في الحال أو المضي ولم يطرأ عليه ما هو علامة التكذيب، وهذا مذهب بعض العلماء منهم، وهو اختيار الإمامين فخر الإسلام وشمس الأئمة.

وذهب جمهور المحققين منهم إلى أنَّه هو


(١) في الأصل: (مجازًا)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>