للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

(١٠) [باب العلم قبل القول والعمل]

هذا (بابٌ) بالتنوين، وهو ساقط في رواية، (العلم قبل القول والعمل) يعني: أنَّ الشيء يُعلم أولًا ثم يُقال ويُعمل به، فالعلم مقدَّم عليهما بالذات وبالشرف؛ لأنَّه عمل القلب، وهو أشرف أعضاء البدن، (لقول الله تعالى)، وللأصيلي: (عزَّ وجلَّ) : ({فَاعْلَمْ})؛ أي: يا محمد، ({أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ} [محمد: ١٩] فبدأ) الله تعالى (بالعلم) أولًا ثم قال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: ١٩]، وهو قول وعمل، والخطاب وإن كان للنبي الأعظم عليه السلام، لكنَّه عامٌّ متناولٌ لأمَّته، والأمر للدوام، كما في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ} [الأحزاب: ١]؛ أي: دُمْ على التقوى.

(وأنَّ العلماء) يجوز في (أنَّ) فتح همزتها عطفًا على سابقه وكسرُها على الحكاية، (هم ورثة الأنبياء) عليهم السلام؛ أي: مسميين بذلك، لقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا (١) مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: ٣٢]؛ أي: وهم العلماء (وَرَّثوا)؛ بفتح الواو مع تشديد الراء المفتوحة؛ أي: الأنبياء، أو بفتح الواو مع كسر الراء المخففة؛ أي: العلماء، ويجوز ضم الواو وتشديد الراء المكسورة أيضًا؛ أي: العلماء، وما قاله ابن حجر فليس بصحيح، كما نبَّه عليه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.

(العلم، مَن أخذه أخذ) من ميراث النبوة (بحظ)؛ أي: نصيبٍ (وافر)؛ أي: كثير كامل، وهذا قطعة من حديث أخرجه الترمذي، وابن حبان، والحاكم من حديث أبي الدرداء: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن سلك طريقًا يطلب فيه علمًا؛ سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة، وإنَّ الملائكة لتضعُ أجنحتَها رضًىلطالب العلم، وإنَّ العالم تستغفر له مَن في السماوات ومَن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضلُ العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإنَّ العلماء ورثة الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا وإنَّما ورثوا العلم، فمَن أخذه أخذ بحظٍّ وافر» اهـ، وتُكُلِّم في سنده كما هو مبسوطٌ في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.

(ومن سلك طريقًا) حال كونه (يطلب به)؛ أي: السالك، على حدِّ {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: ٨]، (علمًا) نكَّره؛ ليتناول العلوم الدينية، وليشمل الكثير والقليل، (سهَّل الله له طريقًا)؛ أي: في الآخرة أو في الدنيا بأن يوفِّقَه للأعمال الصالحة الموصلة (إلى الجنة)، أو هو بشارة بتسهيل العلم على طالبه؛ لأنَّ طلبه موصل إلى الجنة.

وفي «مسند الفردوس» بسنده إلى سعيد بن جبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارحموا طالب العلم؛ فإنَّه متعوب البدن، لولا أنَّه يأخذ بالعجب؛ لصافحته الملائكة معاينة، ولكن يأخذ بالعجب ويريد أن يقهر مَن هو أعلم منه).

وهذه الجملة التي ساقها المؤلف أخرجها مسلم من حديث الأعمش، عن أبي صالح، والترمذي، وقال: حسن، ولم يقل: صحيح؛ لتدليس الأعمش، لكن في رواية مسلم عن الأعمش: (حدثنا أبو صالح)، فانتفت تهَمة تدليسه، كما بسطه في «عمدة القاري».

(وقال) الله (جلَّ ذكره)، وفي رواية: (جلَّ وعزَّ) : ({إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ})؛ أي: يخافه، ({مِنْ عِبَادِهِ})؛ أي: من علم قدرته وسلطانه، ({العُلَمَاءُ} [فاطر: ٢٨])، قاله ابن عباس، وقرئ: برفع الجلالة ونصب {العُلَمَاءُ}، وهي قراءة الإمام الأعظم وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما؛ لأنَّ الخشية فيها تكون استعارة، والمعنى: إنَّما يُجِلُّهم ويعظِّمُهم.

ومن لوازم الخشية التعظيم، فيكون من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم، فإن قلت: خشية الله مقصورة على العلماء بقضية كلام هذه الآية، وقد ذكر الله أيضًا: أنَّ الجنة لمن يخشى وهو: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: ٨]، فيلزم من ذلك ألَّا تكون الجنةُ إلَّا للعلماء خاصَّةً.

أجاب شيخ الشيخ الإمام بدر الدين العيني: بأنَّ المراد من العلماء الموحِّدون، وأنَّ الجنة ليست إلَّا للموحدين الذين يخشون الله تعالى؛ أي: يخافونه (٢)، ومَنِ ازداد علمًا؛ ازدادَ مِنَ الله خوفًا، وفي الحديث: «أعلمُكم بالله أشدُّكم له خشيةً»، وقال عليه السلام أيضًا: «أنا أخشاكم لله وأتقاكم له».

(وقال) الله تعالى: ({وَمَا يَعْقِلُهَا})؛ أي: الأمثال المضروبة، ({إِلَّا العَالِمُونَ} [العنكبوت: ٤٣]) الذين يعقلون عن الله تعالى، وروى جابر: أنَّ النبي الأعظم قرأ هذه الآية قال: «العالم الذي عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه»، ({وَقَالُوا})؛ أي: الكفَّار حين دخولهم النار: ({لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ}) الإنذار سماع قبول للحق، وإنَّما حذف المفعول؛ لأنَّه كالفعل اللازم، ({أَوْ نَعْقِلُ}) كلامَ الرسل عقلَ متأملين، ({مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: ١١])؛ أي: في جملتهم في النار، والمراد من (العقل) هنا: العلم؛ لأنَّهم تمنَّوا أن لو كان لهم عقل؛ لما دخلوا النار، وروى أبو سعيد الخدري مرفوعًا: «أنَّ لكل شيء دِعامة، ودِعامة المؤمن عقلُه، فبقدر ما يعقل يعبد ربَّه، ولقد ندم الفجار يوم القيامة فقالوا: {لَوْ كُنَّا...}؛ الآية».

وروى أنس مرفوعًا: «أنَّ الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنَّما يرتفع العباد غدًا في الدرجات وينالون الزلفى من ربِّهم على قدر عقولهم».

(وقال) الله تعالى: {قُلْ} ({هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: ٩]) نفى المساواة بين العلم والجهل، فيقتضي نفي المساواة أيضًا بين العالم والجاهل، وفيه مدح للعلم وذم الجهل.

(وقال النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) فيما أخرجه ابن أبي عاصم بهذا اللفظ في كتاب العلم من طريق ابن عمر عن أبيه مرفوعًا بإسناد حسن، ووصله المؤلف بعد بابين (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)، وفي رواية: (يفهِّمه)؛ بالهاء المشددة المكسورة بعدها ميم، فالفقه لغة: الفهم، قال تعالى: {يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: ٢٨]؛ أي: يفهموا، ثم خص به علم الشريعة، والعالم به يسمى فقيهًا، («وإنما العلم بالتعَلُّم»)؛ بفتح العين وتشديد اللام المضمومة، وفي رواية: (بالتعلِيم) بكسر اللام وبالمثناة التحتية.

وليس هذا من كلام المؤلف، كما قاله الكرماني؛ بل هو حديث أورده ابن أبي عاصم والطبراني من حديث معاوية، ولفظه: «يا أيها الناس؛ تعلموا العلم، إنَّما العلم بالتعلُّم، والفقه بالتفقه، ومَنْ يردِ الله به خيرًا يفقهه في الدين» إسناده حسن، ورواه أبو نعيم من حديث أبي الدرداء، ولفظه: «إنَّما العلم بالتعلُّم، وإنَّما الحلم بالتحلُّم، ومَن يتحرَّ الخير؛ يعطَه»؛ فافهم.

(وقال أبو ذر) جندب بن جنادة الغفاري فيما وصله الدارمي في «مسنده» وغيره من حديث أبي مرثد، كما بسطه في «عمدة القاري»، وذلك لما قال له رجل والناس مجتمعون عليه عند الجمرة الوسطى يستفتونه: ألم تُنهَ عن الفُتيا؟ وكان الذي منعه عثمان؛ لاختلافٍ حصل بينه وبين معاوية بالشام في تأويل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: ٣٤]، فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب خاصَّةً، وقال أبو ذرٍّ: نزلت فينا وفيهم، فكتب معاوية إلى عثمان، فأرسل إلى أبي ذرٍّ، وحصلت منازعة أدت إلى انتقال أبي ذرٍّ عن المدينة إلى الرَّبَذَة؛ بفتح الراء المهملة، والباء الموحدة، والذال المعجمة، إلى أن مات: (أرقيبٌ أنت عليَّ؟) (لو وضعتم الصمصامة)؛ بالمهملتين، الأولى مفتوحة؛ أي: السيف الصارم الذي لا ينثني، أو الذي له حدٌّ واحد، (على هذه، وأشار) بقوله: (هذه) (إلى قفاه)، وفي رواية: (إلى القفا) وهو مقصور: مؤخَّرُ العنق، يُذَكَّر ويؤنَّث، (ثم ظننت أنَّي أُنْفِذ)؛ بضم الهمزة، وكسر الفاء، آخره معجمة؛ أي: أقدر على إنفاذ، (كلمة)؛ أي: تبليغها، (سمعتها من النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم قبل أن تُجِيزوا)؛ بضم المثناة فوق، وكسر الجيم، وبعد التحتية زاي معجمة، الصمصامة (عليَّ)؛ أي: على قفاي؛ أي: قبل أن تقطعوا رأسي، (لأنفذتها)؛ بفتح الهمزة والفاء وإسكان الذال المعجمة، وإنَّما فعل أبو ذرٍّ هذا؛ حرصًا على تعليم العلم لطلب الثواب، ولأمر النبي عليه السلام بالتبليغ عنه، وللوعيد في حقِّ الكتمان.

وزاد في رواية: (وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليبلغ الشاهد الغائب») وتقدم قريبًا، وفيه دليل على أنَّ أبا ذرٍّ كان لا يرى بطاعة الإمام إذا نهاه عن الفتيا، و (لو) هنا لمجرَّد الشرط كـ (إن) من غير ملاحظة الامتناع، أو المراد: أنَّ الإنفاذ حاصل على تقدير الوضع، فعلى تقدير عدم الوضع حصولُه أولى، كقوله: نِعْمَ العبد صهيب لو لم يخفِ الله؛ لم يعصه.

وفيه جواز الشِّدَّة وتحمُّل الأذى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويباح له أن يسكت إذا خاف الأذى، كما قال أبو هريرة: (لو حدثتكم بكل ما في جوفي؛ لرميتموني بالبعر)، قال الحسن: صدق، وأراد بذلك ما يتعلَّق بالفتن ممَّا لا يتعلَّق بذكره مصلحةٌ شرعية، وإلَّا لما كتمه، وسيأتي في محلِّه، والله تعالى أعلم، وأستغفر الله العظيم.

(وقال ابن عباس) رضي الله عنهمافيما وصله ابن أبي عاصم والخطيب بإسناد حسن، ({كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: ٨٩])؛ أي (حلماء) جمع حليم؛ باللام وضم الحاء المهملة؛ وهو الطمأنينة عند الغضب، (فقهاء) جمع فقيه؛ وهو العالم بالأحكام الشرعيَّة العلميَّة من أدلتها التفصيليَّة، وفي رواية: (حكماء) جمع حكيم، وهي الفقه في الدين، وقيل: صحة القول، والعقد، والفعل، (علماء) جمع عالم، وهذا تفسيره.

وقال في «عمدة القاري» : (الرباني


(١) في الأصل: (اصطفيانهم).
(٢) في الأصل: (يخافوه).

<<  <   >  >>