للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

«عمدة القاري».

وجواب (لمَّا) قوله: (نزل) أي: النبي الأعظم عليه السلام عن دابته (فتوضأ)؛ أي: بماء زمزم كما سبق، (فأسبغ الوضوء)؛ أي: أتمه وأكمله؛ أخذًا بالأفضل على عادته، وهذا موضع المطابقة للترجمة، وفيه: دليل على استحباب إعادة الوضوء من غير أن يفصل بينهما بعبادة؛ لأنَّه نور على نور حيث تبدل المجلس، أمَّا إذا لم يتبدل المجلس أو لم يؤدِّ بالأول عبادة؛ فهو إسراف مكروه، وما زعمه بعضهم من أنَّه يحتمل أنَّه أحدث؛ فبعيد؛ لأنَّه عليه السلام دائم على الطهارة الكاملة؛ فليحفظ.

(ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب)؛ أي: قبل حط رحالهم كما صرح به المؤلف في رواية، ويدل له قوله: (ثم أَناخ) بفتح الهمزة؛ أي: أبرك (كل إنسان) أي: من الجماعة (بعيره في منزله)؛ أي: مكانه؛ خشية ما يحصل منها من التشويش أو لإراحتها، والظاهر أنَّ (ثم) هنا وفي قوله: (ثم أقيمت العِشاء) ليست للتراخي، و (العِشاء)؛ بكسر العين وبالمد، والمراد به: صلاة العشاء التي وقتها من غروب الشفق إلى طلوع الفجر، (فصلَّى) بتشديد اللام (ولم يصلِّ بينهما)؛ أي: بين الصلاتين سنة المغرب ولا سنة العشاء القبلية، ففيه: دليل ظاهر على المنع من التطوع بينهما؛ لأنَّه يخل بالجمع، ولو تطوع أو تشاغل بشيء؛ فإنَّه مكروه وعليه إعادة (١) الإقامة لوقوع الفصل، وهو مذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه، كما نص عليه الإمام المرغيناني في «الهداية»، وقال الإمام زفر: يعيد الأذان أيضًا، كما في «شرح الكنز».

وفيه أيضًا: دليل ظاهر على (٢) أنَّ تأخير صلاة المغرب إلى وقت العشاء واجب، حتى لو صلى المغرب في الطريق؛ لم يجز وعليه إعادتها ما لم يطلع الفجر، وهو مذهب الإمام الأعظم، وبه قال الإمام محمد، والإمام زفر، والجمهور.

وقال الشافعي: لو جمع بينهما في وقت المغرب في عرفات، أو في الطريق، أو في موضع آخر، أو صلى كل صلاة في وقتها؛ جاز الجميع وإن كان خلاف الأفضل، وبه قال الإمام أبو يوسف، وجماعة من الصحابة والتابعين، والأوزاعي، وأشهب، وهذا الجمع يسمى جمع التأخير، ولا يشترط فيه سوى المكان والإحرام.

والسبب في هذا الجمع بمزدلفة: النُّسك؛ فلهذا يجمع المزدلفي، وعند الشافعي: السفر فلا يجمع المزدلفي، فليس لنا أن نجمع بين صلاتين في وقت واحد إلَّا هنا وفي عرفة للحاج لا لغيرهم بشرط الإمام والإحرام، فيجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم كما يأتي في (الحج) إن شاء سبحانه.

وقال ابن بطال: فيه: أنَّ يسير العمل إذا تخلل بين الصلاتين غير قاطع نظام الجمع بينهما؛ لقوله: (ثم أناخ)، ولكنه لا يتكلم.

قلت: ليس فيه ما يدل على عدم جواز التكلم بينهما، ولا ما يدل على عدم القطع اليسير وعلى قطع الكثير؛ بل فيه دليل ظاهر على عدم القطع مطلقًا يسيرًا أو كثيرًا؛ لأنَّهم لم يشتغلوا بشيء سوى إناخة البعير وهو عمل يسير لا يعد قاطعًا؛ فافهم.

واستدل به الشافعي على أنَّ الفوائت لا يؤذَّن لها، لكن يقام.

قلت: هذا الاستدلال فاسد؛ لأنَّ تأخير المغرب إلى العشاء ليس بقضاء، وإنَّما هو أداء؛ لأنَّ وقته قد تحول إلى وقت العشاء؛ لأجل العذر المرخص، فكيف يصح القياس عليه؟! وإنَّه قياس مع الفارق؛ فليحفظ.

وقيل: فيه: دليل لمن لا يتنفَّل في السفر، ورُدَّ بأنَّه ليس فيه دلالة على ذلك، بل في ترك التنفل بينهما، أما تركه مطلقًا؛ فلا دلالة فيه، كما لا يخفى.

واتفق الفقهاء على اختيار التنفل في السفر إلا إذا ضاق وقت المكتوبة سواء كان سفرًا أو حضرًا، فيترك التنفل ويشرع بالفرض، ولو اقتصر على الفرائض؛ جاز حتى يكون مؤديًا الفرض بوقته.

ولم يذكر في الحديث الأذان، ومذهب الإمام الأعظم، والإمام أبي يوسف، والإمام محمد، وسعيد بن جبير، والثوري: أنَّ الجمع بأذان واحد وإقامة واحدة لهما، وهو المروي عن جابر، وابن عمر، وأبي أيوب الأنصاري.

وفي الحديث: تنبيه المفضول الفاضل إذا خاف عليه النسيان؛ لما كان فيه من الشغل؛ لقول أسامة: (الصلاة يا رسول الله)، وتمامه في «عمدة القاري».

(٧) [باب غسل الوجه باليدين من غرفة واحدة]

هذا (باب) جواز (غَسل) بفتح الغين المعجمة (الوجه باليدين من غَرفة واحدة)؛ بفتح الغين المعجمة، بمعنى المصدر، وبالضم بمعنى المغروف؛ وهي ملء الكف، وفي «العباب» : غرفت الماء بيدي غرفًا، والغرفة: المرة الواحدة، والغُرفة؛ بالضم: اسم للمغروف منه؛ لأنَّك ما لم تغرفه لا تسميه غرفة، ومراد المؤلف: التنبيه على عدم اشتراط الاغتراف باليدين جميعًا في الوضوء، ووجه المناسبة بين البابين من حيث إنَّ الأول فيه بعض وصف الوضوء، وفي هذا وصفه بتمامه، وتمامه في «عمدة القاري».

[حديث وضوء عبد الله ابن عباس]

١٤٠ - وبه قال: (حدثنا) وفي رواية بالإفراد (محمد بن عبد الرحيم)؛ أي: ابن أبي زهير أبو يحيى البغدادي، المعروف بصاعقة، لُقِّب به؛ لسرعة حفظه، وكان بزازًا، المتوفى سنة خمس وخمسين ومئتين في شعبان (قال: أخبرنا) وفي رواية: (حدثنا) (أبو سَلَمة) بفتح السين واللام (الخُزاعي) بضم الخاء المعجمة (منصور بن سَلمة)؛ بفتح المهملة: البغدادي، المتوفى بالمصيصة سنة عشرين ومئتين، أو عشر، أو سبع، أو تسع ومئتين (قال: أخبرنا ابن بلال؛ يعني: سليمان) : أبو محمد المدني، والعناية تحتمل من كلام المؤلف أو من كلام ابن عبد الرحيم، والظاهر الأول، (عن زيد بن أَسْلم)؛ بفتح الهمزة وسكون السين المهملة، (عن عطاء بن يَسار)؛ بفتح التحتية أوله بعدها سين مهملة، (عن ابن عباس) عبد الله رضي الله عنهما (أنَّه) أي: ابن عباس (توضأ) : زاد أبو داود في أوله: (أتحبون أن أريكم كيف كان رسول الله عليه السلام يتوضأ؟ فدعا بإناء فيه ماء)، (فغسل وجهه) : من عطف المفصل على المجمل، ثم بين الغسل على وجه الاستئناف، فقال: (أخذ غَرفة) بفتح الغين (من ماء) بالمد (فمضمض) : وفي رواية: (فتمضمض)؛ بالمثناة الفوقية (بها واستنشق) : وإنَّما ترك العاطف؛ لأنَّه بيان لغسل الوجه، فإن كان بيانًا والمضمضة والاستنشاق ليسا من غسل الوجه، وأجيب: بأنَّه أعطى لهما حكم الوجه؛ لكونهما في الوجه.

والمضمضة: تحريك الماء في الفم، وعند الفقهاء: استيعاب الماء جميع الفم، والإدارة والمج ليسا بشرط، فلو شرب الماء عبًّا -بالعين المهملة-؛ أجزأه، ولو مصًّا؛ لا يجزئه، كما في «فتح القدير»، لكن الأفضل أن يمجه؛ لأنَّه ماء مستعمل، كما في «السراج».

والاستنشاق: جذب الماء بريح الأنف إليه، وعند الفقهاء: إيصال الماء إلى المارن؛ وهو ما لان من الأنف، فالجذب ليس شرطًا فيه شرعًا بخلافه لغة، كما في «النهر الفائق».

ولفظ الراوي يحتمل وجهين؛ أحدهما: أن يجمع بينهما بغرفة يتمضمض منها، ثم يستنشق منها ثلاثًا، والثاني: أن يجمع بينهما أيضًا بغرفة لكن يتمضمض منها، ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها، ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها، ثم يستنشق، والوجهان قول للشافعي، وقال أحمد: إنَّه مخير بين أن يتمضمض ويستنشق ثلاثًا من غرفة أو بثلاث غرفات، فإنَّ عبد الله بن زيد روى عن النبي الأعظم عليه السلام: (أنَّه مضمض واستنشق ثلاثًا ثلاثًا من غرفة واحدة)، وروى ابن ماجه: (أنَّه عليه السلام توضأ فمضمض ثلاثًا، واستنشق ثلاثًا من كف واحدة)، وإن أفرد لكل عضو ثلاث غرفات؛ جاز؛ لأنَّ الكيفية في الغسل غير واجبة، كذا في «المغني الحنبلي».

والسنة عندنا: أن يتمضمض ثلاثًا، ويستنشق ثلاثًا، يأخذ لكل واحدة ماءً جديدًا، ولو تمضمض ثلاثًا بغرفة واحدة؛ أقام السنة في المضمضة لا سنة التكرار، وأمَّا الاستنشاق؛ فلا يصح أن يكون التثليث من غرفة واحدة؛ لعدم انطباق الأنف على باقي الماء فيصير الباقي مستعملًا، كما في «الجوهرة» و «الشرنبلالية».

ويدل لما قلنا ما رواه الترمذي عن علي الصديق الأصغر: أنَّه غسل كفيه حتى أنقاهما، ثم مضمض ثلاثًا، واستنشق ثلاثًا، وغسل وجهه ثلاثًا، وذراعيه ثلاثًا، ومسح برأسه مرة، ثم غسل قدميه إلى الكعبين، ثم قام فأخذ فضل طهوره فشربه وهو قائم،


(١) في الأصل: (أعاد)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (إلى)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>