للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

لأنَّ روث مأكول اللحم طاهر، يدلُّ عليه ما رواه المؤلف في باب (الصلاة في مرابض الغنم)، عن أنس قال: (كان النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم يصلي في مرابض الغنم)، وروى في باب (الصلاة في مواضع الإبل)، عن نافع قال: (رأيت ابن عمر رضي الله عنهمايصلي إلى بعيره، وقال: رأيت النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم يفعله)، فهذا يدل على طهارة روث مأكول اللحم وبوله؛ لأنَّ المرابض لا تخلو عن الروث والبول، فدلَّ على أنَّهم كانوا يباشرونها في صلاتهم، فلا تكون نجسه، وحاله عليه السَّلام أجلُّ وأعظمُ من أن يصلي في مكان نجس، وهذا قول الإمام محمَّد بن الحسن، ومالك، والشعبي، والنخعي، وعطاء، والزهري، والثَّوري، وابن سيرين، وابن المنذر، وابن حبان، وابن خزيمة، والروياني، والإصطخري من الشَّافعية، وجماعة، وكفى بهؤلاء قدوة، فكيف يكون ضعيفًا؟!

وقوله: (ولأنَّه ذبيحة عبدة الأوثان)، قال إمامنا الشَّارح: لو كان كما ذكر؛ كان جميع أجزائها نجسة.

قلت: وهذا إنَّما كان قبل التعبُّد بتحريم ذبائحهم.

واعترض أنَّه يحتاج إلى تأريخ، ولا يكفي فيه الاحتمال.

قلت: الاحتمال الناشئ عن دليل كافٍ، ولا شكَّ أن تماديه عليه السَّلام في هذه الحالة قرينة تدلُّ على أنَّه كان قبل تحريم ذبائحهم؛ لأنَّه عليه السَّلام لا يستقر على أمر غير مشروع ولا يقرر غيره عليه؛ لأنَّ حاله أجلُّ وأعظم من ذلك، انتهى.

ثم قال النَّووي: والجواب عن الحديث: أنَّه عليه السَّلام لم يعلم ما وضع على ظهره، فاستمر في سجوده؛ استصحابًا للطهارة، وما يدرى هل كانت هذه الصلاة فريضة فيجب إعادتها، أو غيرها فلا يجب؟ وإن وجبت الإعادة؛ فالوقت يوسع لها، فلعله أعادها، انتهى.

واعتُرض عليه بأنَّه لو أعاد؛ لنُقل، ولم ينقل عنه الإعادة.

وأجاب عنه إمام الشَّارحين: بأنَّه لا يلزم من عدم النقل عدم الإعادة في نفس الأمر، بل يجوز أنَّه أعادها لمَّا علم من فاطمة أنَّها (١) طرحت عنه الأذى وهو في الصلاة.

فإن قلت: كيف لا يعلم بما وضع على ظهره وأن فاطمة ذهبت به قبل أن يرفع رأسه؟

قلت: لا يلزم من إزالة فاطمة إياه عن ظهره إحساسه عليهالسلام بذلك؛ لأنه كان إذا دخل في الصلاة؛ استغرق باشتغاله بالله تعالى (٢)، ولئن سلمنا إحساسه به، فقد يحتمل أنَّه لم يتحقق نجاسته، والدليل عليه أن شأنه أعظم من أن يمضي في صلاته وبه نجاسة، وقد يقال: إن الفرث والدم كانا داخل السلى (٣) وجلده الظَّاهر طاهر، فكان كحمل القارورة المرصَّعة، انتهى.

واعترضه العجلوني فزعم أن هذا الجواب غير صحيح؛ لأنَّ حمل النَّجاسة في الصلاة ولو في قارورة طاهرة غير جائز، انتهى.

قلت: هذا مردود عليه، بل هذا الجواب صحيح؛ لأنَّ النَّجاسة ما دامت في معدنها تجوز فيها الصلاة، ألا ترى أن الإنسان يصلي والحال أنَّه حامل في بطنه أرطالًا من النَّجاسة ولا يسع أحدًا أن يحكم بعدم صحة صلاته؟! قال في «الفتاوي الظهيرية» : الصبي إذا كان ثوبه نجسًا أو هو نجس فجلس على حجر المصلي وهو يستمسك بنفسه أو الحمَام النجس إذا وقع على رأس المصلي وهو يصلي؛ جازت صلاته؛ لأنَّه لم يصر المصلي حاملًا للنجاسة، كذا في «البحر الرَّائق»، وكذا لو مسَّ المصلي نحو حائط نجس بيابس في الصلاة لا يضرُّه؛ لأنَّه لا يعدُّ حاملًا للنجاسة، كما في «شرح النقاية» للقهستاني، وكذا لو صلى وفي كمِّه بيضة مزرة قد صار مخُّها دمًا؛ جازت صلاته؛ لأنَّه في معدنه، والشيء مادام في معدنه لا يعطى له حكم النَّجاسة، كذا في «المحيط».

فالحاصل: أن الفرث والدم كانا داخل السلى (٤) وجلدته الظَّاهرة طاهرة، فالنَّجاسة في معدنها، والشيء ما دام في معدنه لا يعطى له حكم النَّجاسة؛ فليحفظ.

وزعم أشهب أن الحديث حجَّة على أنَّ إزالة النَّجاسة ليست بواجبة، قاله القرطبي.

وردَّه إمامنا الشَّارح بأنَّ الدلائل القطعية توجب إزالتها عن ثوب المصلي وبدنه والمكان الذي يصلي فيه، فهي ترد عليه، انتهى.

وهذا الحديث قد سبق في باب (إذا ألقي على المصلي قذر؛ لا تفسد صلاته)، وتقدم الكلام [عليه]، والله تعالى أعلم.

((٩)) [كتاب مواقيت الصلاة]

هذا (كتاب) أحكام (مواقيت الصلاة)، ولمَّا فرغ من بيان الطهارة بأنواعها التي هي شرط الصلاة؛ شرع في بيان الصلاة بأنواعها التي هي المشروطة، والشرط مقدم على المشروط، وقدَّمها على الزكاة، والصوم، وغيرهما؛ لمَا أنَّها تاليةُ الإيمان، وثانية في الكتاب والسنة، ولشدَّة الاحتياج وعمومه إلى تعلُّمها؛ لكثرة وقوعها ودورانها، بخلاف غيرها من العبادات، كذا في «عمدة القاري».

قلت: لا يقال: إنَّه تقدَّم كتاب (الصلاة)؛ لأنَّا نقول: ما قدَّمه تابع لكتاب (الطهارة)؛ بدليل ذكر أحكام النجاسات وغيرها فيه، أمَّا هنا؛ فهو كتاب مستقل؛ لبيان أحكام الصلاة وأوقاتها؛ فليحفظ.

و (الكتاب) : مصدر بمعنى الجمع لغة، بمعنى: المكتوب، فهو من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول، فالمصدر كتب وكتابة وكتبًا، والجمع: ضم شيء إلى شيء، ومنه: كتبت البغلة: إذا جمعت بين شفريها بشعرة، ثم جعل شرعًا عنوانًا لمسائل مستقلة مطلقًا، وهو شامل لما كان تحته نوع واحد أو أكثر، كلُّ نوع يسمى بابًا، وكلُّ باب يشتمل على صنف من المسائل أو أكثر، وقيد الإطلاق مخرج للباب؛ لأنَّه طائفة من المسائل اعتبرت مستقلة مع قطع النَّظر عن تبعيَّتها للغير أو تبعيَّة الغير لها.

فالفرق بين الكتاب والباب: أن الكتاب قد يكون تابعًا وقد لا يكون، بخلاف الباب فإنَّه لا بدَّ أن يكون تابعًا أو متتبعًا، وتمامه فيما قدمناه وفي «شرحنا على القدوري»، وقلت فيه: والصلاة: اسم مصدر (صلَّى)، والمصدر: التصلية، وإنما عدلوا عن المصدر إلى اسمه؛ لإيهامه خلاف المراد والمقصود، وهو التصلية بمعنى: التعذيب بالنَّار، فإنَّه مصدر مشترك بين (صلَّى)؛ بالتشديد بمعنى: دعا، و (صلَى)؛ بالتخفيف بمعنى: أحرق، ووزنها (فعلة)، واللام: واو؛ بدليل الجمع على (الصلوات)، فقلبت الواو ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، وإنما رسمت في القرآن بالواو؛ لأجل التفخيم والتعظيم.

واختلف في حقيقتها لغة؛ فقال الفاضل الزمخشري: إن حقيقة (صلَّى) حرَّك الصلوين (٥)؛ لأنَّ المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده، ويقال للداعي: مصليًا؛ تشبيهًا في تخشُّعه بالراكع والساجد، واختاره أبو علي واستحسنه ابن جني، والصلْوان؛ بالسكون: العظمان الناتئان في أعالي الفخذين اللذان عليهما الأليتان، والجمهور على أنَّ حقيقتها: الدعاء، فهي فيه حقيقة، وتستعمل في غيره مجازًا، وبهذا جزم الجوهري وغيره، والقرآن ورد بلغة العرب قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: ١٠٣]؛ أي: ادع لهم، وإنما عُدِّي بـ (على)؛ باعتبار لفظ الصلاة، وفي الحديث في إجابة الدعوة: «وإن كان صائمًا؛ فليصلِّ»؛ أي: فليدع لهم بالخير والبركة، ومنه: الصلاة على الميت، ومنه: قول الأعشى:

تقولُ بنتي وقد قربتُ مرتحَلا... يا ربِّ جنِّبْ أبي الأوصابَ والوجعا

عليك مثلَ الذي صليت فاغتمضي... نومًا فإنَّ لجنب المرء مضطجعا

وفي الشريعة: عبارة عن الأركان والأفعال المخصوصة المعهودة؛ أي: حقيقة، وفي الدعاء مجازًا، فهي في اللُّغة: حقيقةٌ في الدعاء مجازٌ في العبادة، وفي الشرع: حقيقةٌ في العبادة مجازٌ في الدعاء، ففي المعنى الشرعي: المعنى اللغوي وزيادة، فتكون من الأسماء المغيرة لا المنقولة، وتمامه فيه؛ فليحفظ.

وقال إمامنا الشَّارح: والمواقيت: جمع ميقات على وزن (مِفْعَال)، وأصله: موقات؛ قلبت الواو ياءً؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، من وقَّت الشيء يقَّته إذا بيَّن حده، وكذا وقَّته يوقِّته، ثم اتسع فيه، فأطلق على المكان في الحجِّ، والتوقيت: أن يُجعَل للشيء وقت يختص به، وهو بيان مقدار المدة، وكذلك التأقيت، وقال السفاقسي: الميقات: هو الوقت المضروب للفعل والموضع، وفي «المنتهى» : كل ما جعل له حين وغاية؛ فهو موقت، ووقَّته ليوم كذا؛ أي: أجَّله، وفي «المحكم» : وقت موقوت وموقَّت: محدود، انتهى.

(بسم الله الرحمن الرحيم) هي ثابتة في رواية الأكثرين، ساقطة في رواية كريمة، (باب مواقيت الصلاة وفضلها)، كذا في رواية أبي ذر عن المستملي و (الفرع) و (أصله)، وفي رواية الحموي: البسملة ثم كتاب ثم باب، وللأصيلي: تقديم البسملة ثم كتاب ولم يذكر باب، وتمامه في «عمدة القاري».

ومن العادة المستمرة عند المصنفين: أن يذكروا الأبواب بعد لفظ الكتاب، فإنَّ الكتاب يشمل الأبواب والفصول، و (الباب) : هو النوع، وأصله: البوب؛ قلبت الواو ألفًا؛ لتحركها وانفتاح


(١) في الأصل: (أنَّه)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) زيد في الأصل: (أعلم).
(٣) في الأصل: (الصلاة)، وليس بصحيح.
(٤) في الأصل: (الصلاة)، وليس بصحيح.
(٥) في الأصل: (الصلويين)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>