للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

الجموح ومعاذ بن عفراء (١)، كما ذكره في «الصَّحيحين»، ومرَّ عليه ابن مسعود رضي الله عنه وهو صريع، فاحتزَّ رأسه، وأتى به النَّبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم فقال: هذا رأس عدوِّ الله، فنَفَّله النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم بسيفه، وقال: «الحمد لله [الذي] أخزاك يا عدوَّ الله، هذا كان فرعون هذه الأمة ورأس أئمة الكفر»، وفي رواية البيهقي: (فخرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجدًا)، قلت: ففيه: دليل على استحباب سجدة الشُّكر، وأنَّها مشروعة، وعلى أنَّ الإنسان إذا كان له عدوٌّ فهلك، أو حاجة قضيت؛ أن يحمد الله ويسجد لله تعالى شكرًا لما أنعمه عليه؛ فليحفظ.

وأمَّا عتبة بن ربيعة؛ فقتله حمزة، وقيل: علي.

وأمَّا شيبة بن ربيعة؛ فقتله حمزة أيضًا.

وأمَّا الوليد بن عتبة؛ فقتله عبيدة بن الحارث وقيل: علي.

وأما أميَّة بن خلف؛ فقيل: قتله رجل من الأنصار، وقيل: قتله خارجة بن زيد، وقيل: حبيب بن أساف، وفي السِّيَر من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أن بلالًا رضي الله عنه خرج إليه ومعه نفر من الأنصار، فقتله، وذكر ابن الجوزي أنَّه عليه السَّلام قتله وكان بدينًا؛ أي: سمينًا، فلما قتل؛ انتفخ، فألقوا عليه التراب حتى غيبه، ثم جُرَّ إلى القليب فتقطَّع قبل وصوله إليه، وكان من المستهزئين الذين قال الله تعالى في حقهم خطابًا لنبيِّه الأعظم صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: ٩٥]، وفيه نزل قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: ١]، وهو الذي كان يعذب بلالًا رضي الله عنه في مكة.

وأما عقبة بن أبي معيط؛ فقتله علي رضي الله عنه، وقيل: عاصم بن ثابت، والأصح: أن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم قتله بعد انصرافه من بدر على ثلاثة أميال مما يلي المدينة، فهو لم يقتل ببدر، بل حمل منها أسيرًا، فقتله عليه السَّلام بهذا الموضع، ويسمَّى عرق الظبية، وهو من الروحاء، وقيل: إنَّه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتقتلني من بين سائر قريش؟ قال: «نعم»، ثم قال: «بينا أنا بفناء الكعبة وأنا ساجد خلف المقام؛ إذ أخذ بمنكبي، فلف ثوبه على عنقي، فخنقني خنقًا شديدًا، ثم جاء مرة أخرى بسلى جزور بني فلان»، وكان عقبة من المستهزئين أيضًا، وذكر ابن حبيب أنَّه من زنادقة قريش.

وأمَّا عمارة بن الوليد؛ فإنَّه مات بأرض الحبشة زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وله قصة مع النجاشي، وحاصلها: أن عمارة قد تعرض لامرأة النجاشي فأمر ساحرًا فنفخ في إحليل عمارة من سحره عقوبةً له، فتوحش وصار مع البهائم إلى أن هلك لعنه الله.

(ثم قال رسول الله) وللأصيلي: (النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: بعد سحبهم وإلقائهم في القليب مع غيرهم؛ لأنَّ الذين ألقوا فيه بضعة وعشرون رجلًا، كما رواه قتادة عن أنس عن أبي طلحة، وفي رواية: (أربعة وعشرين رجلًا من صناديد قريش، فألقوا في طوًى من أطواء بدر)، وكلمة (ثم) تشعر بها.

وزعم العجلوني؛ أي: بعد قتلهم.

قلت: وفيه بُعد؛ لأنَّهم لم يصيروا من أصحاب القليب إلا بعد إلقائهم فيه؛ فافهم.

(وأُتْبع أصحاب القليب لعنة) : (وأُتبع)؛ بِضَمِّ الهمزة، إخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم بأنَّ الله أتبعهم اللعنة؛ أي: كما أنهم مقتولون في الدنيا مطرودون عن رحمة الله في الآخرة، ويروى: (وأَتبع)؛ بفتح الهمزة، ويروى: بلفظ الأمر، فهو عطف على قوله: (اللهم عليك بقريش)؛ أي: قال في حياتهم: اللهم أهلكهم، وقال في هلاكهم: أتْبِعْهم اللعنة، قاله إمامنا الشَّارح.

قلت: فيكون على الأول فعلًا ماضيًا مبنيًّا للمفعول، و (أصحاب) : مرفوع نائب فاعل، وعلى الثاني: منصوب، والله أعلم.

فإن قلت: إلقاؤهم في البئر دفنٌ لهم، والحربيُّ لا يجب دفنه، بل يترك في الصحراء، وهم كانوا حربًا.

قلت: إلقاؤهم في البئر كان تحقيرًا لهم؛ لئلا يتأذى الناس برائحتهم، ولم يكن دفنًا.

فإن قلت: في «سنن الدارقطني» : من سننه عليه السَّلام في مغازيه: إذا مرَّ بجيفة إنسان؛ أمر بدفنه ولا يسأل عنه مؤمنًا كان أو كافرًا.

قلت: إنَّما كان لا يسأل؛ لأنَّه كان يعلم بالوحي أنَّه إذا كان مؤمنًا؛ كان يستحقُّ الدفن؛ لكرامته، وإن كان كافرًا؛ فلئلا يتأذى الناس برائحته، على أنَّ المراد بدفنه ليس دفنًا شرعيًّا، بل صبُّ التراب عليه؛ للمواراة.

فإن قلت: صبُّ التراب عليهم كان يقطع رائحتهم.

قلت: كان إلقاؤهم في البئر أيسر عليهم في ذلك الوقت مع زيادة التحقير لهم.

فإن قلت: كيف كان إلقاؤهم في البئر والناس ينتفعون بمائها؟

قلت: البئر لم يكن فيها ماء، وكانت عادية (٢) مهجورة، وقيل: إنَّه وافق أنَّه كان حفرها رجل من بني النار، اسمه بدر بن قريش بن مخلد بن النضر بن كنانة، الذي سميت قريش به على أحد الأقوال، فكان ذلك فألًا مقدمًا لهم، انتهى.

ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة؛ حيث إنَّ فاطمة رضي الله عنها ألقت وطرحت عن أبيها عليه السَّلام الأذى وهو في الصلاة ولم تضر صلاته، كما ذكرناه أول الباب.

قال الكرماني: وفي الحديث: الدعاء على الكفار إذا آذوا المؤمنين، وكان هؤلاء ممن لا يرجى دخولهم في الإسلام، وأجاب الله دعوته فيهم، وأنزل في شأنهم: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ}، وأمَّا من رُجي منهم الإسلام؛ فلم يدع عليهم، بل دعا لهم بالهداية والتوبة والدخول في الإسلام، انتهى.

قلت: وفيه نظر؛ لأنَّه ليس في الحديث ما ذكره من التفصيل، وليس فيه أنَّه كان يدعو بالهداية والتوبة، وإن كان ذُكِر في غيره، وما ذكره من أنَّه إن رجي إسلامه؛ لا يدعو عليه؛ مخصوص بزمن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه ينزل عليه الوحي بذلك، أما في زماننا؛ فلا وحي، ورجاء الإسلام من الكفار مستحيل؛ لما يشاهد من عنادهم في كفرهم ونفاقهم؛ لأنَّ كثيرًا (٣) ما قد دخل بعضهم في الإسلام، ثم ارتدَّ -والعياذ بالله-، ورجع إلى كفره وضلاله، ولم يثبت واحد منهم على الإسلام، فإذا كان الأمر كذلك؛ جاز الدعاء عليهم بالهلاك مطلقًا سواء رجي أم لا، كما قدمناه؛ فافهم.

وفي الحديث: دلالة على أنَّ من عرض له في أثناء صلاته ما يمنع انعقادها ابتداء؛ لا تفسد صلاته، كما لو عرضت له نجاسة فأزالها في الحال ولا أثر لها، فإنَّها لا تفسد صلاته بالاتفاق، فيحتمل أنَّ فاطمة طرحته قبل مضي زمان أداء ركن، ويحتمل أنَّه قد فرغ من صلاته وسجد بعدها شكرًا لله تعالى، أو كان عليه سجود سهو فسجده وهو ساجد؛ جاء عقبة فطرحه عليه، والسجدة لا توصف وحدها بصلاة، ويدل على هذا ما عند المؤلف في (الطهارة) : (فرفع رأسه -أي: من السُّجود- ثم قال: «اللهم»)، وللبزار: (فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد؛ اللهم عليك»)، فهذا يدلُّ على أنَّ الدعاء وقع عقيب الرفع من السُّجود وأنَّ المطروح كان في حال السُّجود؛ الشُّكر أو السَّهو، وهذا لم يضر صلاته، والروايات التي فيها: (فلما قضى صلاته) ظاهرة أيضًا؛ لأنَّه قد قضى صلاته وانتقل إلى سجود الشُّكر أو السَّهو، وهو توفيق بين الروايات، وتصحيح لحكم الصلوات؛ فتأمل.

وزعم الخطابي أنَّ أكثر العلماء على أنَّ السَّلى نجس، وتأولوا معنى الحديث على أنَّه عليه السَّلام لم يكن تُعُبِّد إذ ذاك بتحريمه؛ كالخمر كانوا يلابسون الصلاة وهي تصيب ثيابهم وأبدانهم قبل نزول التحريم، فلمَّا حرمت؛ لم تجز الصلاة فيها، واعترضه ابن بطال بأنَّه لا شكَّ أنَّها كانت بعد نزول قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: ٤]؛ لأنَّها أول ما نزل عليه من القرآن قبل كل صلاة، ورُدَّ عليه بأنَّ الفرث ورطوبة البدن طاهران، والسَّلى من ذلك.

قال النَّووي: وهذا ضعيف؛ لأنَّ روث ما يؤكل لحمه ليس بطاهر؛ لأنَّه يتضمن النَّجاسة من حيث إنَّه لا ينفكُّ من الدم في العادة، ولأنه ذبيحة عبدة الأوثان، فهو نجس، انتهى.

قلت: وهذا ليس بضعيف؛


(١) في الأصل: (غفراء)، وهو تصحيف.
(٢) في الأصل: (عادته)، وهو تصحيف.
(٣) في الأصل: (كثير)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>