فإن قلت: لم قال: (تابعه عمرو)، وقال: (قال موسى)، ولم يسلك فيهما طريقًا واحدًا؟ قلت: المتابعة أقوى؛ لأنَّ القول أعم من الذكر على سبيل النقل والتحميل، أو من الذكر على سبيل المجاورة والمذاكرة، فأراد الإشعار بذلك، ويحتمل سماع البخاري من عمرو وموسى؛ فلا يجزم بأنه ذكرهما على سبيل التعليق.
قال صاحب «عمدة القاري» : (قلت: كلاهما تعليق صورة، ولكن الاحتمال المذكور موجود؛ لأنَّ كليهما من مشايخ البخاري) انتهى.
وتمامه في «عمدة القاري» فإنه شرح لم يسبق بمثله، ومن أراد بيان المعاني والتحقيق والتدقيق؛ فعليه به، فإنه مشحون من الفوائد والفرائد، والله تعالى أعلم، وأستغفر الله العظيم إنه تواب رحيم.
(٢٩) [باب غسل ما يصيب من فرج المرأة]
هذا (باب) حكم (غسل ما) موصولة، أو نكرة موصوفة (يصيب) أي: الرجل، أو العضو، أو الشيء (من) بيانية (فرج المرأة)؛ أي: امرأته، أو أمته عند الجماع.
[حديث زيد: أنه سأل عثمان: أريت إذا جامع امرأته فلم يُمنِ]
٢٩٢ - وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا أبو مَعمَر)؛ بفتح الميمين، هو عبد الله بن عمرو؛ بالواو (قال: حدثنا عبد الوارث) هو ابن سَعِيْد؛ بكسر العين المهملة، (عن الحسين المعلم)؛ هو ابن ذكوان، وسقط (المعلم) في رواية (قال يحيى)؛ هو ابن أبي كثير؛ أي: قال الحسين: قال يحيى، ولفظ (قال) الأولى تحذف في الخط في اصطلاحهم، قاله في «عمدة القاري» : (وأخبرني) بالإفراد (أبو سَلَمَة)؛ بفتحات، هو ابن عبد الرحمن بن عوف، هذا معطوف على مقدر؛ تقديره: قال يحيى: وأخبرني بكذا وكذا، وأخبرني هذا، وإنما احتجنا إلى التقدير؛ لأنَّ (أخبرني) مقول (قال)، وهو مفعول حقيقة، فلا يجوز دخول (الواو) بينهما، ووقع في رواية مسلم بحذف الواو على الأصل، وفي رواية المؤلف دقة وهو الإشعار بأن هذا من جملة ما سمع يحيى مِن أبي سَلَمَة.
فإن قلت: قول الحسين: (قال يحيى) يوهم أنه لم يسمع من يحيى، وكذا قال ابن العربي: إنه لم يسمع من يحيى، فلذلك قال: (قال يحيى)؟
قلت: وقع في رواية مسلم في هذا الموضع: (عن الحسين، عن يحيى).
فإن قلت: العنعنة لا تدل صريحًا على التحديث.
قلت: الحسين ليس بمدلس، وعنعنة غير المدلس محمولة على السماع على أنه قد وقع التصريح في رواية ابن خزيمة في رواية الحسين عن يحيى بالتحديث، ولفظه: حدثني يحيى بن أبي كثير، وأيضًا لم ينفرد به الحسين مع ذلك، فقد رواه عن يحيى أيضًا معاوية بن سلام، أخرجه ابن شاهين، وشيبان بن عبد الرحمن، أخرجه المؤلف في باب (الوضوء من المخرجين)، كذا قرره إمام الشارحين في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(أن عطاء بن يَسار)؛ بفتح التحتية أوله، فسين مهملة، ضد اليمين: (أخبره أن زيد بن خالد الجُهني)؛ بضمِّ الجيم، وفتح الهاء، وبالنون نسبة إلى جُهينة بن زيد؛ بضمِّ الجيم أيضًا: (أخبره أنه سأل عثمان بن عفان) ثالث خلفاء سيدي المرسلين المسمى بذي النورين الذي تستحي منه ملائكة خالق الكونين رضي الله تعالى عنه مستفتيًا له، (فقال) أي: زيد لعثمان: (أرأيت) وفي رواية: (فقال له: أرأيت) أي: أخبرني: (إذا جامع الرجل امرأته) أي: أو أمته (فلم يُمْنِ)؛ بضمِّ التحتية أوله، وسكون الميم من الإمناء؛ أراد: أنه لم ينزل منه المني، وهذا أفصح اللغات، والثاني منها: فتح التحتيتة، وسكون الميم، والثالث: ضم التحتية مع فتح الميم، وتشديد النون، كذا في «عمدة القاري»، (قال عثمان) أي: ابن عفان رضي الله عنه في جواب الاستفتاء: لا يجب عليه الغسل، لكنه (يتوضأ كما يتوضأ للصلاة)؛ أي: يتوضأ وضوءًا شرعيًّا لا لغويًّا، (ويغسل ذكره) أي: يجمع بينهما؛ لأنَّ (الواو) لا تدل على الترتيب، وظاهر اللفظ يدل على أنه يقدم الوضوء على غسل الذكر؛ لأنَّ غسله ليس باستنجاء، ولأن مسه غير ناقض للوضوء، وهو ظاهر لفظ (عثمان) رضي الله عنه، ولفظ غيره من الصحابة الآتي ذكرهم؛ فليحفظ وإنما أمره بالوضوء وغسل الذكر؛ لأنَّه لا بد في هذه الحالة من خروج مذي منه وهو نجس ناقض للوضوء، ويحتمل لما أصابه من فرج المرأة؛ حيث إنه ينزل منها إلى فرجها المذي المسمى من النساء: القذى فيختلط في رطوبة الفرج فينجس الذكر بذلك؛ فلذلك أمره بغسله، وفيه المطابقة للترجمة، كما لا يخفى؛ فافهم، (فقال) وفي رواية: (قال) (عثمان)؛ أي: ابن عفان رضي الله عنه: (سمعته) أي: ما ذكره من قوله: (يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره) (من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) فالضمير المنصوب يرجع إلى ما ذكره، وذلك باعتبار المذكور؛ فهذا سماع ورواية، والأول فتوى منه، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وهذه الفتوى يحتج بها؛ لأنَّها لا تقال من قبل الرأي، بل عن سماع ورواية، لا سيما وقد صرح بالسماع؛ فليحفظ.
والظاهر: أن هذا هو المباشرة الفاحشة الناقضة للوضوء، وهي مس فرج أو دبر بذكر منتصب بلا حائل يمنع حرارة الجسد، كما في «إمداد الفتاح» وهو صادق بألَّا يكون حائل أصلًا وبأن يكون حائل رقيق لا يمنع الحرارة، وكما ينتقض وضوءه ينتقض وضوءها، كما في «الفتاوى القنية» وجهه: أن المباشرة الفاحشة لا تخلو عن خروج المذي غالبًا، والغالب كالمتحقق وهو الاحتياط، كما في «مجمع الأنهر».
وظاهر الحديث يدل على هذا؛ لأنَّ قوله: (إذا جامع...) إلخ؛ أي: أراد الجماع، لكنه حصل منه مس الذكر بالفرج، ولا ريب أنه في هذه الحالة لا ينزل منه المني، بل يخرج منه المذي وهذا ظاهر؛ لأنَّه لو كان جامع حقيقة بأن أدخل الذكر في الفرج؛ فالغالب نزول المني منه، والغالب كالمتحقق، لا سيما في بعض الناس التي غلبت شهوتهم، فإنهم بمجرد التماس يحصل الإنزال، بل وبمجرد التفكر يمني؛ فتأمل، والله تعالى أعلم.
(فسألت عن ذلك)؛ أي: عن الحكم المذكور؛ وهو ما إذا جامع ولم يُمنِ وهذا مقول قول محذوف؛ أي: قائله عثمان رضي الله عنه؛ أي: الذي أفتيت به زيد بن خالد، ويحتمل على بعد؛ أي: يكون قائله زيد بن خالد؛ لأنَّ قول عثمان: (سمعته من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) يدل على أن القائل: (فسألت عن ذلك) عثمان رضي الله عنه، فضمير المتكلم يعود عليه، وهو ظاهر (علي بن أبي طالب) رضي الله عنه، قيل: إنه مدفون في سفح جبل قاسيون في صالحية دمشق عند مرقد الزعبي، وأبي بكر بن قوام، وقيل: عند طريق القوافل فوقه بنحو من ثلاثين ذراعًا، وقيل: في حارة الأكراد، وأوسطها أعدلها، (والزُّبير) بضمِّ الزاي (بن العَوَّام)؛ بفتح العين المهملة، وتشديد الواو، وهو مدفون في داخل طاحونة الزبيرية التي في مرج الدحداح عند النهر، وقد زرته، والله أعلم (وطلحة بن عبيد الله)؛ بالتصغير، أحد العشرة (وأُبيَّ بن كعب) أقرأ الصحابة بشهادة من تظله الغمامة، وهو مدفون خارج باب شرقي دمشق قبلي المنارة البيضاء التي ينزل عليها عيسى ابن مريم عليه السلام، عليه قبة مهابة يقصد بالزيارة والتبرك، لا سيما لأولاد الصغار عند ابتداء قراءتهم القرآن، فيلحسون الشاهدة المكتوب عليها خط كوفي؛ فيحصل المراد بإذن رب العباد رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
قال في «عمدة القاري» : (والظاهر: أن سؤاله منهم استفتاء من عثمان وفتوى منهم لا رواية، لكن رواه الإسماعيلي مرة