للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

بعضهم: (إذا جاوز الختان الختان؛ فقد وجب الغسل)، وقال بعضهم: (الماء من الماء)، قال عمر رضي الله عنه: (قد اختلفتم وأنتم أهل بدر الأخيار، فكيف الناس بعدكم؟!) فقال علي بن أبي طالب: (يا أمير المؤمنين؛ إن أردت أن تعلم ذلك؛ فأرسل إلى أزواج النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فسلهن عن ذلك)، فأرسل إلى عائشة رضي الله عنها، فقالت: (إذا جاوز الختان الختان؛ فقد وجب الغسل)، فقال عمر رضي الله عنه عند ذلك: (لا أسمع أحدًا يقول: الماء من الماء؛ إلا جعلته نكالًا)،

قال الحافظ الطحاوي: (فهذا عمر رضي الله عنه قد حمل الناس على هذا بحضرة أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فلم ينكر ذلك عليه منكِر) انتهى.

واعترضه العجلوني فزعم أن الخصم ينازع في الإجماع بما نقله مما تقدم، فكيف يتوجه الرد عليه بما ذكره؛ فتأمل.

قلت: تأملته، فناسب أن يقال هنا: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ العِلْمِ} [النجم: ٣٠]؛ ولا يخفى أنه لا نزاع في الإجماع؛ لأنَّ المراد بالإجماع إجماع الصحابة رضي الله عنهم وهو المعتبر في الدلائل الشرعية لا إجماع التابعين؛ لأنَّه غير معتد فيه في الشرع، فهذا القائل لم يفرق بين إجماع الصحابة وإجماع من بعدهم، ولا يسع أحدًا أن ينكر إجماع الصحابة في هذه المسألة؛ لثبوته عنهم، كما رواه الحافظ الطحاوي، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة في «مصنفه» على غير هذه الصفة، كما ذكرنا ذلك في باب: (إذا التقى الختانان) عن «عمدة القاري»، وفيه إجماع الصحابة على لزوم الغسل وإن لم ينزل، ولهذا قال الشافعي في «اختلاف الحديث» : حديث «الماء من الماء» ثابت، لكنه منسوخ...) إلى أن قال: (فخالفنا بعض أهل الحجاز فقالوا: لا يجب الغسل حتى ينزل، فعرف بهذا أن الخلاف مشهور بين التابعين ومن بعدهم، لكن الجمهور على إيجاب الغسل وهو الصواب) انتهى، فقد علمت أنه نفى الخلاف بين الصحابة؛ لوقوع الإجماع وثبوته عنهم، وأثبت الخلاف بين التابعين ومن بعدهم، فهذا القائل لم يدر الفرق بين إجماع هؤلاء وبين إجماع هؤلاء وبينهما فرق كما بين السماء والأرض، وعلى كل؛ فالرد متوجه على ابن حجر بما زعمه، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم.

وادعى ابن القصار أن الخلاف ارتفع بين التابعين، قال في «عمدة القاري» : وفيه نظر؛ لأنَّ الخطابي قال: (قاله من التابعين الأعمش)، وتبعه القاضي، ولكنه قال: (لم يقل به أحد بعد الصحابة غيره).

قال في «عمدة القاري» : (وفيه نظر؛ لأنَّه قد ثبت أن أبا سَلَمَة بن عبد الرحمن كان يفعل ذلك، وكذا عطاء بن أبي رباح، كما رواه ابن عبد الرزاق) انتهى.

والحاصل: أن إجماع الصحابة ثابت قائم على وجوب الغسل بالجماع وإن لم ينزل، وأن اختلاف التابعين فيه ثابت، وما بعد الإجماع إلا الرجوع إليه، ثم أجمعت المجتهدون على ذلك، فلا يجوز العمل إلا بما عليه أئمة المذاهب الأربعة الأعلام، والله ولي الألباب وهو الصواب؛ فافهم.

وفي رجب سنة سبع وسبعين ومئتين وألف ظهر قحط من قلة القمح وغيره، وقلة البيع والشراء، وتعطلت الطرقات من الثلج، وظهرت السقعة في كل يوم من العصر على وجه ماء البحرات، فالبرد شديد، والخبز عزيز، والدرهم قليل، والمصرف كثير، والحي باقٍ لا يزول، اللهم؛ أحسن أحوال المسلمين، ورخص أسعارهم بجاه النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وآله وأصحابه أجميعين آمين.

((٦)) [كتاب الحيض]

ولما فرغ المؤلف من الأحداث التي يكثر وقوعها؛ كالأصغر والأكبر والأحكام المتعلقة بها أصلًا وخلفًا؛ أراد أن يذكر لنا عقيب ذلك حكم الأحداث التي يقل وقوعها، فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم) كذا هي ثابتة في «الفرع»، وساقطة في أكثر الروايات، هذا (كتاب) في بيان أحكام (الحيض) ولأبي ذر تقديم (كتاب) على البسملة، وفي رواية: (باب) بدل (كتاب)، ولا يخفى أن التعبير بـ (كتاب) أولى؛ لاشتماله على الأنواع الداخلة تحته، بخلاف الـ (باب)؛ فافهم، وإنما ترجم بـ (الحيض) دون غيره من النفاس والاستحاضة؛ لكثرة وقوع الحيض على غيره، أو لكونه أصلًا في هذا الباب دون غيره، ولأنَّه أصل في الأحكام، ولهذا أفرده الإمام محمَّد بن الحسن محرر مذهب الإمام الأعظم في كتاب مستقل، ولأنَّ معرفة مسائله من أعظم المهمات؛ لما يترتب عليها ما لا يحصى من الأحكام؛ كالطهارة، والصَّلاة، والقراءة، والصوم، والحج، والاعتكاف، والبلوغ، والوطء، والطلاق، والعدة، والاستبراء، وغير ذلك مما مقرر في كتب الفروع.

واختلفوا في التعبير عن الحيض والنفاس بأنهما من الأحداث أو الأنجاس، فذهب جماعة إلى الثاني، وذهب جماعة إلى الأول، قال في «العناية» : (والأنسب أنه الأول)، واستظهر في «البحر» الثاني، ثم قال: (والظاهر أنه لا ثمرة لهذا الاختلاف) انتهى.

قلت: ويرد عليه أن إزالة النجاسة تبيح الدخول في الصَّلاة، واغتسال الحائض ما دامت متصفة به لا يبيح ذلك، فعلم بهذا أنه ليس نجسًا حقيقيًّا، والطهارة منه طهارة حدث لا طهارة نجس، ولأن الأحكام المتعلقة به هي الأحكام المختصة بالأحداث، فالتحقيق أنه من الأحداث، كذا في «منهل الطلاب»، وفيه: وللحيض أسماء وهي خمسة عشر اسمًا، جمعها بعضهم في بيتين من البسيط، فقال:

للحيض عشرة أسماء وخمستها... حيض محيض محاض طمث إكبار

طمس عراك فراك مع أذى ضحك... درس دراس نفاس قرء إعصار

والطمث الأول بالمثلثة، ويقال: بالمثناة الفوقية، ويقال بالهمز أيضًا، والثاني: بالسين المهملة، والعراك؛ بالعين المهملة، وذكر في «النهر» أن الحيض لا يكون في غير المرأة إلا في الأرنب والضبع والخفاش، زاد القسطلاني: (الكلبة، والناقة، والوزغة) انتهى، وزاد بعضهم: الحجرة؛ وهي الأنثى من الخيل، والعرس؛ وهي لبوة الأسد، والجمع: أعراس، وسمكة شبيهة بالنساء ذات شعور وفروج عظام فهي تسعة أصناف، وقد نظمها بعضهم في بيتين، فقال:

الحيض يأتي للنساء وتسعة... وهي النياق وضبعها والأرنب

والوزغ والخفاش حجرة كلبة... والعرس والحيات منها تحسب

والبعض زاد سميكة وعاشة... فاحفظ ففي حفظ النظائر يرغب

والحيض المنسوب إلى هذه الحيوانات؛ بمعنى: السيلان، والحيض في اللغة: السيلان، يقال: حاضت السمرة؛ وهي شجرة يسيل منها شيء؛ كالدم، ويقال: الحيض لغة: الدم الخارج، يقال: حاضت الأرنب؛ إذا خرج منها الدم، وذكر في «العباب» : (التحييض: التسييل، يقال: حاضت المرأة تحيض حيضًا ومحاضًا ومحيضًا)، وعن اللحياني: (حاض، وخاض، وحاص؛ بالمهملتين، وحار؛ كلُّها بمعنًى، والمرأة حائض وهي اللغة الفصيحة الفاشية بغير تاء).

واختلف النحاة في ذلك، فقال الكوفيون: (إنه استغني عن علامة التأنيث؛ لأنَّه وصف لازم مخصوص بالمؤنث؛ فلا لبس في ذلك)، وقال سيبويه: (إن ذلك صفة شيء مذكر؛ أي: شيء أو إنسان، أو شخص حائض)، وقال الخليل: (لما لم يكن جاريًا على الفعل؛ كان بمنزلة المنسوب بمعنى: حائض؛ أي: ذات حيض؛ كذراع، ونامل، وتامر، ولَابِن، وكذا طالق، وطامث، وقاعد للآيسة؛ أي: ذات طلاق)، وحكى الفراء: (حائضة)، وتمامه في «منهل الطلاب»، و «عمدة القاري».

وأما معناه شرعًا؛ فعلى قول من يقول: إنه من الأحداث؛ فهو صفة شرعية مانعة عما تشترط له الطهارة؛ كالصَّلاة، ومس المصحف، وعن الصوم، ودخول المسجد، والقرآن بسبب الدم المذكور، وعلى القول بأنه من الأنجاس؛ فهو دم ينفضه رحم المرأة البالغة لا داء بها، ولا حبل، ولم تبلغ سن الإياس، وقال الإمام

<<  <   >  >>