للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثًا إذا سافرنا، ويومًا وليلة إذا أقمنا)، ولما في «مسلم» من حديث علي رضي الله عنه قال: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهنَّ للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم)، ورواه ابن حبان، وهذا حجة على مالك في عدم توقيته بمدَّة.

وابتداء المدة للمقيم والمسافر عقيب الحدث الذي يحصل بعد لبس الخفين على طهر عند عامَّة علمائنا، وهو الصحيح؛ لأنَّ الخف عهد مانعًا سراية الحدث، فيعتبر ابتداء المدة من وقت المنع؛ لأنَّ ما قبله ليس طهارة مسح، بل طهارة غسل، فلا تعتبر، وقال الإمام المرغيناني في «الهداية» : (المسح جائز من كل حدث موجب للوضوء إذا لبسهما على طهارة كاملة، ثم أحدث)، ثم قال: (وقوله: «إذا لبسهما على طهارة كاملة» : لا يفيد اشتراط الكمال وقت اللبس، بل وقت الحدث، وهو المذهب عندنا حتى لو غسل رجليه ولبس خفيه، ثم أكمل الطهارة، ثم أحدث؛ يجزئه المسح، وهذا لأنَّ الخف مانع حلول الحدث بالقدم، فيراعى كمال الطهارة وقت المنع وهو وقت الحدث حتى لو كانت ناقصة عند ذلك؛ كان الخف رافعًا).

قال ابن حجر بعد ذكر كلام «الهداية» : (والحديث حجة عليه؛ لأنَّه جعل الطهارة قبل لبس الخف شرطًا لجواز المسح، والمعلَّق بشرط لا يصحُّ إلا بوجود ذلك الشرط).

وردَّه في «عمدة القاري» : بأن الحديث المذكور ليس بحجة على صاحب «الهداية»، أمَّا أولًا؛ فإن اشتراط اللبس على طهارة كاملة لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في أنه هل يشترط الكمال عند اللبس أو عند الحدث؟ فعندنا: عند الحدث، وعند الشافعي: عند اللبس، وتظهر ثمرة الخلاف: فيما إذا غسل رجليه أولًا، ولبس خفيه، ثم أتمَّ الوضوء قبل أن يُحدِث؛ جاز له المسح عندنا خلافًا له، وكذا لو توضأ، فرتَّب، لكن غسل إحدى رجليه، ولبس الخف، ثم غسل الأخرى، ولبس الخف الآخر؛ يجوز له المسح عندنا، وهو قول الثوري، ومطرف من أصحاب مالك، والمزني صاحب الشافعي، وابن المنذر وغيرهم، خلافًا للشافعي، وذلك لصدق أنه أدخل كلًّا من رجليه الخفين، وهي طاهرة.

وقوله: (المعلق بشرط لا يصح إلا بوجود ذلك الشرط) سلَّمناه، ولكن لا نسلم أنه عليه السلام شرط كمال الطهارة وقت اللبس؛ لأنَّه لا يفهم ذلك من نصِّ الحديث، غاية ما في الحديث: أنه أخبر أنه لبسهما وقدماه كانتا طاهرتين، فأخذنا من هذا اشتراط الطهارة؛ لأجل جواز المسح سواء كانت حاصلة وقت اللبس أو وقت الحدث، وتقييده بوقت اللبس أمر زائد لا يُفْهَمُ من العبارة، فإذا تقرر هذا؛ لم يكن الحديث حجة على صاحب «الهداية»، بل حجة له؛ حيث اشترط الطهارة لأجل جواز المسح، وحجة على الشافعي؛ حيث يأخذ منه ما ليس يدل على مدعاه، على أنه قدمنا عن الحافظ الطحاوي أن قوله: (أدخلتهما طاهرتين) : يحتمل أن يقال: إنَّه غسلهما وإن لم تكمل الطهارة، كما يقال: صلى ركعتين قبل أن يتم صلاته، ويحتمل أن يريد طاهرتان من جنابة أو خبث.

ولو قلت: دخلنا البلد ونحن ركبان؛ يشترط أن يكون كل واحد راكبًا عند دخول البلد، ولا يشترط اقترانهم في الدخول، وإدخالهما معًا غير متصوَّر عادة، وإنما المتبادر إدخال كل واحدة الخف وهي طاهرة بعد الأخرى، وقد وُجِد.

وقال ابن حجر أيضًا: (وحديث صفوان السابق أقوى حجة للشافعي).

قال في «عمدة القاري» : (إن كان مراده من قوله: «أقوى حجة» كون مدة المسح للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يومًا وليلة؛ فمسلَّم؛ لأنَّه قول الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، ونحن نقول به، وإن كان مراده اشتراط الطهارة وقت اللبس؛ فغير مسلَّم؛ ذلك لأنَّه لا يفهم ذلك من نص الحديث على ما ذكرناه الآن).

ثم قال ابن حجر: (وحديث صفوان وإن كان صحيحًا لكنه ليس على شرط المؤلف، لكن حديث الباب موافق له في الدلالة على اشتراط الطهارة عند اللبس).

ورده في «عمدة القاري»؛ حيث قال: (قلت: بعد أن صح حديث صفوان عند جماعة من المحدثين لا يلزم أن يكون على شرط المؤلف، وقوله: «موافق له في الدلالة...» إلخ: غير مسلَّم؛ لأنَّه لا يدل على كون الطهارة عند اللبس، نعم؛ هو موافق له في مطلق اشتراط الطهارة لا غير، فإن ادعى هذا القائل أنَّه يدل على كونها عند اللبس؛ فعليه البيان بأي نوع من أنواع الدلالة) انتهى.

وزاد في الطنبور نغمة العجلونيُّ على ابن حجر وقال: (والظاهر من الأحاديث: الطهارة الكاملة عند اللبس، ويكفي الظهور في ثبوت الحكم لا سيما رواية: «وهما طاهرتان»؛ لدلالة الجملة الاسمية على الاستمرار) انتهى.

قلت: وهو مردود؛ فأي دليل دلَّه على أن (الظاهر من الأحاديث: الطهارة الكاملة عند اللبس)، وما ذاك إلا دعوى بدون دليل، بل الظاهر المتبادر من الأحاديث: اشتراط الطهارة وقت الحدث، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم.

وقوله: (ويكفي الظهور في ثبوت الحكم) : مردود؛ لأنَّه لم يَظْهَر شيء مما قاله حتى يَثْبُتَ الحكم، وهذا الظهور أوهى من بيت العنكبوت.

وقوله: (لا سيما رواية: «وهما طاهرتان»)؛ يعني: أنه قد ترقَّى في الدليل، ولم يدر أنَّه قد تكلَّم بكلام لا يقبله الطبع السليم، ولا يقوله إلا صاحب الطبع والفهم السقيم، وغاية ما يدل قوله: (وهما طاهرتان) إخبارٌ منه أنه لبسهما على طهارة فقط، وكونه عند اللبس أمر زائد على المفهوم المتبادر من الأحاديث، كما لا يخفى.

وقوله: (لدلالة الجملة الاسمية على الاستمرار)؛ معناه: الاستمرار على الطهارة، فليس فيه دلالة على ما قاله الشافعية، بل الأحاديث التي في هذا الباب ظاهرها والمتبادر منها ما يدل على ما قاله الأئمة الحنفية، ومن تتبع ما قلناه؛ ظهر له الحق اليقين، وخسر هنالك المبطلون؛ فافهم.

وفي الحديث: إمكان الفهم عن الإشارة، وردُّ الجواب بالعلم على ما يفهم من الإشارة؛ لأنَّ المغيرة أهوى لينزع الخفين، ففهم منه عليه السلام ما أراد، [فأجاب] بأن يجزئه المسح، وتمامه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.

(٥٠) [باب: من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق]

هذا (باب: مَن لم يتوضأ مِن) أكل (لحم الشاة) قيَّد به؛ ليندرج ماهو مثلها وما دونها في حكمها، ولعله يشير إلى استثناء لحوم الإبل؛ لأنَّ من خصَّه من العموم كأحمد؛ علَّله بشدَّة زخومته؛ فتأملن (و) من أكل (السويق)؛ بالسين، والصَّاد فيه لغة؛ لمكان المضارعة، والجمع: أسوقة، وسمي بذلك؛ لانسياقه في الحلق، والقطعة من السويق: سويقة، قال أبو حاتم: إذا أرادوا أن يعملوا الفريصة وهي ضرب من السويق؛ ضربوا من الأرض ما يريدون حين يستنزل، ثم يسهمونه، وتسهيمه: أن يسخن على المقلى حتى ييبس، وإن شاؤوا جعلوا معه على المقلى الفرديج، وهو أطيب لطعمه، وعاب رجل السويق بحضرة أعرابي، فقال: لا تعبه، فإنه عدة للمسافر، وطعام العجلان، وغداء المبكر، وبلغة المريض، وهو يسرُّ فؤاد الحزين، ويبرِّد من نفس المحرور، وجيد في التسمين، ومنعوت في الطيب، وفقاره يحلق البلغم، وملتوته يصفِّي الدم، وإن شئت؛ كان شرابًا، وإن شئت؛ كان طعامًا، وإن شئت؛ كان ثريدًا، وإن شئت؛ كان خبيصًا، وأثريت السويق: صببت عليه ماء ثم لتيته، وفي «مجمع الغرائب» : (ثرى يثري ثرية، إذا بل التراب، وإنما بلَّ السويق؛ لما كان لحقه من اليبس والقدم، وهو شيء من الشعير أو القمح يدق، فيكون شبيه الدقيق، إذا احتيج إلى أكله؛ خلط بماء، أو لبن، أو رب، أو نحوه، وقال قوم هو: الكعك).

قال السفاقسي: (قال بعضهم: كان ملتوتًا بسمن)، وقال الداودي: (هو دقيق الشعير والسلت المقلو)، ويرد قول من قال: (إن السويق هو الكعك) قول الشاعر:

يا حَبَّذا الكَعْكُ بلحمٍ مَثْرُودْ... وخُشْكَنَان مع سويق مقنود

كذا في «عمدة القاري»، وقال ابن التين: (ليس في حديثي الباب ذكر السويق)، وأجاب ابن حجر: بأنه دخل من باب أولى؛ لأنَّه إذا لم يتوضأ من اللحم مع دسومته؛ فمع السويق أولى، أو لعلَّه أشار بذلك إلى حديث الباب بعده.

وردَّه في «عمدة القاري»؛ حيث قال: (قلت: إن سلمنا ما قاله؛ فتخصيص السويق بالذكر لماذا؟! وقوله: «ولعلَّه...» إلخ؛ أبعد في الجواب من

<<  <   >  >>