وبهذا صرَّح الطَّحاوي في روايته؛ حيث قالت: فإذا سجد؛ غمزني فرفعتهما فقبضتهما، فإذا قام؛ مددتهما، وللبخاري: (فإذا سجد؛ غمزني فقبضت رجليَّ، وإذا قام؛ بسطهما)، ولأبي داود: (فإذا أراد أن يسجد؛ ضرب رجليَّ فضممتهما إليَّ ثم سجد)، ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة.
ففيه أن الرجل المصلي إذا غمز امرأته وهي نائمة عند السُّجود لأجل أن يسجد مكان رجليها؛ لا يفسد الصلاة، وليس فيه كراهة، وجه عدم الفساد: أن الغمز حركة أو حركتان لا ثالث لهما، وهو غير مفسد للصلاة، ووجه عدم الكراهة: أنَّه عليه السَّلام قد فعله، وهو لا يوصف بالكراهة، ولو كان مكروهًا؛ لما فعله أو لنهى عنه.
وفي الحديث: دليل على أنَّ لمس المرأة غير ناقض للوضوء، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور سلفًا وخلفًا؛ لأنَّه عليه السَّلام قد لمس عائشة بيده الشريفة ومضى في صلاته.
وتأوَّل الشَّافعية أنَّه عليه السَّلام مس عائشة بيده مع الحائل ويحتمل الخصوصية.
قلت: إنَّما زعموا هذا؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامهم: أن المس ناقض، ولا دليل لهم في ذلك، فإن قولها في الحديث: (غمزني) يدل على أنَّه بدون حائل؛ لأنَّه الأصل، ولو كان ثمة حائل؛ لصرحت بذلك، ولا يخفى أن اليد والرجل عند أهل الصرف واللُّغة كانتا بغير حائل، بل المس: وَقْعُ البشرة على البشرة، ويدل لذلك رواية أبي داود: (ضرب رجليَّ)، ولا يخفى أن الضرب لا يكون بحائل، بل بدونه، كما هو التحقيق.
ودعوى الخصوصية باطلة؛ لأنَّه لا بدَّ لها من دليل ولم يوجد، بل هذا الحكم عام، ويدل عليه أنَّه قد تكرَّر منه عليه السَّلام هذا الفعل، وهو يدل على العموم، ومن ادعى الخصوصية؛ فعليه الدليل، وتمامه فيما قدمناه.
فظهر أن الصَّواب: ما قلناه والعناد بعد ذلك مكابرة.
وفي الحديث: جواز صلاة الرجل إلى المرأة، وأنها لا تقطع صلاته.
وفيه: استحباب صلاة الليل.
وفيه: استحباب إيقاظ النائم لحاجة.
وفيه: دليل على أنَّ المرأة لا تبطل صلاة من صلى إليها ولا من مرت بين يديه، وهو قول الجمهور سلفًا وخلفًا، وبه قال الإمام الأعظم، وتبعه مالك والشَّافعي، ولا يخفى أن اعتراضها بين يديه أشد من مرورها.
وقال أحمد: يقطع الصلاة الكلب الأسود؛ لحديث أبي سعيد: (أن الكلب الأسود شيطان)، وذهب جماعة: إلى أن الصلاة يقطعها مرور الكلب، والحمار، والمرأة، وفي ذلك حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، وأبي ذر.
والجواب عنها من وجهين:
أحدهما: أن المراد بالقطع النقص؛ أي: نقص الخشوع؛ لشغل القلب بمرورها، وليس المراد إبطالها؛ لأنَّ المرأة يتغير (١) الفكر فيها، والحمار ينهق، والكلب يهوش، فلما كانت هذه الأشياء آيلة للقطع؛ أطلق عليها القطع مجازًا.
والثاني: أن الأحاديث الواردة في ذلك منسوخة بحديث: «لا يقطع الصلاة شيء وادرؤوا ما استطعتم»، أخرجه الطَّحاوي، وبوَّب عليه البخاري، وقد صلى الشَّارع عليه السَّلام وبينه وبين القبلة عائشة، وكانت الأتان ترتع بين يديه ولم ينكره أحد، كما أخرجه البخاري عن ابن عبَّاس، فدل هذا على النَّسخ، ولهذا أنكرت عائشة رضي الله عنها على الذي ذكر عندها القطع بهذه الأشياء، وإنما أنكرت؛ لعلمها أن هذا الحكم منسوخ، فالظَّاهر: أنهم لم يبلغهم النَّسخ إلا منها.
وذهب عطاء وغيره: إلى أنَّه يقطعها المرأة الحائض، ورُدَّ بأن قد جاء في روايات هذا الحديث قالت: (وأنا حائض)، وحديث: (يقطع الصلاة اليهودي، والنصراني، والمجوسي، والخنزير)، ضعيف لا يحتج به.
وفي الحديث: أن العمل اليسير في الصلاة لا يفسدها، وهو حركة أو حركتان، والثلاث كثير.
وفيه: جواز الصلاة إلى النائم، وحديث ابن عبَّاس أنَّه عليه السَّلام قال: «لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث»، نص الحفاظ على أنَّ طرقه واهية وهو ضعيف لا يحتج به، فهو لا يقاوم ما روي في «الصَّحيح»، على أنَّ ما في «الصَّحيح» ناسخ له، وقد وَرَد أحاديث في النَّهي عن الصلاة خلف النائم أو المتحدث، ونص الحفاظ على أنَّها ضعيفة واهية؛ فافهم.
وفي الحديث: جواز الصلاة على الفراش، ومذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور: على أنَّه تجوز الصلاة على البساط والطنفسة والفراش إذا كان يجد الساجد عليه حجم الأرض عند السُّجود، وبه قال الشَّافعي.
وزعم المالكية أن الصلاة على الطنفسة وشبهها مكروهة، ولا سَنَدَ لهم في ذلك، والحجة عليهم قول النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وفعله؛ ففي «البخاري» من حديث ميمونة قالت: (وكان النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم يصلي على الخُمرة)، وروى أبو نعيم عن ابن عبَّاس: (أن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم صلى على البساط)، فهذا دليل على أنَّ الصلاة على ذلك غير مكروهة، والأفضل الصلاة على الأرض وعلى ما تنبته الأرض، كما فعله الشَّارع وليس بعد النص إلا الرجوع إليه، والله تعالى أعلم، وهذا الحديث قد مضى مع ما يتعلق به في باب (الصلاة على الفراش)، والله تعالى أعلم.
(١٠٩) [باب المرأة تطرح عن المصلى شيئًا من الأذى]
هذا (بابٌ) بالتنوين (المرأة) مبتدأ (تطرح)؛ أي: ترمي، خبره (عن المصلي شيئًا من الأذى) وكلمة (من) بيانية؛ أي: النجس، كقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: ٢٢٢]؛ أي: نجس، واقتصر إمام الشَّارحين على تنوين (باب)، وزعم العجلوني أنَّه يجوز تركه، وعليه؛ فالجملة حال من المضاف إليه، أو مستأنفة، انتهى، قلت: الظَّاهر: أنَّه بالتنوين فقط؛ لأنَّه على عدمه يختل التركيب والمعنى؛ فافهم.
قال ابن بطال: (هذه التَّرجمة قريبة من التراجم التي قبلها؛ لأنَّ المرأة إذا تناولت ما على ظهر المصلي؛ فإنَّها تقصد إلى أخذ ذلك من أي جهة كانت، فإن لم يكن هذا المعنى أشد من مرورها بين يديه؛ فليس دونه) انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ فإن هذه التَّرجمة مستقلة بنفسها لا تَعلُّق لها بالأبواب والتراجم التي قبلها، فإن أحكام السترة والمرور قد أتمها البخاري وأكملها، وقد ذكر في هذا الباب والذي قبله مسائل في أحكام الصلاة؛ لأنَّه من تتمة كتاب (الصلاة)، وليس في الحديث مرور غير أنها قد تناولت القذر من ظهر المصلي، وهو ليس بمرور أصلًا، ومراد البخاري بهذا الباب: أن المرأة إذا طرحت قذرًا عن ظهرالمصلي؛ هل تفسد صلاته أم لا؟ فالفساد ناشئ من وقوع الأذى على ظهره وهو يصلي، هل يمضي في صلاته أم يقطعها؟
وذكر حديث الباب في باب مستقل وترجم له: (باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة؛ لم تفسد عليه صلاته)، ذكره في (الطهارة)، وإنما أعاده هنا لبيان اختلاف العلماء في ذلك، ولأن عادته تكرار الأحاديث؛ لأخذ الأحكام منها مع تغيير السند والمتن؛ فافهم.
[حديث: اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش]
٥٢٠ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا أحمد بن إسحاق) هو ابن الحصين بن جابر السلمي (السُّرْماري)؛ بِضَمِّ المهملة وسكون الرَّاء؛ كذا في «التقريب» و «لب الألباب»؛ نسبة إلى سرمار قرية من قرى بخارى، وهو الذي يضرب بشجاعته المثل، قتل ألفًا من الترك، مات سنة اثنتين وأربعين ومئتين، قاله الشَّارح، قلت: هو غير منسوب رواية الأكثرين، ولابن عساكر ما ذكرنا، ولأبي ذر والأصيلي: (السُّوْرَمارِي)؛ بِضَمِّ المهملة، وسكون الواو، مع فتح الرَّاء، بعدها ميم ثم راء مكسورة بينهما ألف، وقال الشَّارح: السَِّرْماري؛ بكسر المهملة وفتحها وسكون الرَّاء الأولى، ومثله في «الكرماني» و «ابن حجر»، (قال: حدثنا عُبيد الله) بالتصغير (بن موسى) هو ابن باذام الكوفي (قال: حدثنا إسرائيل) هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الكوفي، (عن أبي
(١) في الأصل: (تغير).