للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

(وفي الحديث: أن الثوب إذا كان يمكن الالتحاف به؛ كان أولى من الائتزار به؛ لأنَّه أبلغ في الستر) انتهى.

(وقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وفي رواية أبي داود: (فقال قائل)، وهذا القائل أعم من أن يكون النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أو غيره بأمره، ويؤيده رواية الكشميهني: (ويقال)، وفي رواية النسائي: (فقيل)، وروى أبو داود ثم البيهقي من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول للنساء: «من كان منكن يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رؤوسهم؛ كراهية أن يرين عورات الرجال»، وهذا فيه التصريح بأن القائل النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، كذا قاله إمام الشَّارحين الشيخ بدر الدين العيني رضي الله عنه، وزعم ابن حجر أن الذي يغلب على الظن أن القائل: بلال، انتهى.

قلت: وهذا فاسد، فأين غلبة ظنه مع تصريح السيدة أسماء الصديقة بسماعها قول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم للنساء؟! وما هذا إلا خبط وتخبيط، وكأنه لم يطلع على ما ذكره إمام الشَّارحين حتى قال ما قال: ومن الذي يجسر بحضرة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أن يأمر بأمر أو ينهى بنهي؟! وقول من قال: إنه أمر بأمر النبيِّ عليه السَّلام له؛ دعوى بلا دليل، فإنه إذا لم يثبت القائل؛ فكيف يدِّعي الأمر له، وما هذا إلا خلط عظيم، والحق ما قاله إمام الشَّارحين، والحق أحق أن يتبع.

(للنساء)؛ أي: نساء الصحابة اللاتي يصلين وراء الرجال مع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، (لا ترفعن رؤوسكن) أي: من السجود (حتى يستوي الرجال جلوسًا) : جمع جالس؛ كالركوع جمع راكع، أو مصدر بمعنى: جالسين، وعلى كل حال فانتصابه على الحال، وإنما نهى النساء عن ذلك؛ لئلا يلمحن عند رفعهنَّ من السجود شيئًا من عورات الرجال، كما وقع التصريح فيه في حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق المروي عند أبي داود، كما تقدم، وكذا عند أحمد بلفظ: «فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رؤوسهم؛ كراهة أن يرين عورات الرجال».

وفي الحديث: دليل على أن المصلي إذا خشي ارتكاب محذور بفعل الواجب؛ يتركه؛ لأنَّ متابعة الإمام في الأركان واجبة، فنهى عنها عليه السَّلام لما يترتب عليها من المفسدة؛ لأنَّ درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح، وهذه قاعدة من قواعد الأئمة الحنفية رضي الله عنهم، وفي الحديث أيضًا: أنه لا يجب الستر من أسفل عند السجود بخلاف الأعلى، وفيه أيضًا: أنه إذا الرجل نظر عورة المصلي؛ لا يفسد صلاته، وفيه: أن النساء يصلين خلف الرجال، ويدل عليه قوله عليه السَّلام: «أخروهن من حيث أخرهن الله...»؛ الحديث، وفيه: أن النساء لا يصلين وحدهن بالجماعة؛ لأنَّه عليه السَّلام لم يأمرهن بذلك، فإن فعلن؛ كره تحريمًا، وتقف الإمام وسطهن، وفيه: أن النساء تخرج لصلاة الجماعة في المسجد، وفيه خلاف؛ فبعضهم قال: يخرجن في صلاة الفجر وصلاة العشاءين؛ لأنَّ الفسقة في الأولى: نائمون، وفي الثانية: آكلون، وبعضهم قال: لا يخرجن مطلقًا؛ لفساد الزمان، وهذا هو المتعين؛ لما يشاهد من الفساد، وعليه الجمهور، والله تعالى أعلم.

(٧) [باب الصلاة في الجبة الشأمية]

هذا (باب) : بيان حكم (الصلاة) : فرضها وواجبها ونفلها (في الجُبَّة)؛ بضم الجيم، وتشديد الموحدة: هي التي تلبس فوق الثياب، وجمعها جبات (الشامية) : نسبة إلى الشام، ويجوز فيه الألف والهمزة الساكنة، وهو الإقليم المعروف، دار الأنبياء ومقرهم ومرقدهم عليهم السلام، وفيه الصحابة والتابعون والأولياء والأبدال رضي الله عنهم، وقد ألف في فضله التآليف العديدة، ووردت فيه الأحاديث الشهيرة، فطوبى لمن سكن فيه؛ لأنَّ الله تعالى قد تكفل فيه، والمراد بـ (الجبة الشامية) : هي التي ينسجها الكفار، وإنما ذكره بلفظ (الشامية)؛ مراعاة للفظ الحديث، وكان هذا في غزوة تبوك، والشام إذ ذاك كانت دار كفر، ولم تفتح بعد، وإنما أولنا بهذا؛ لأنَّ الباب معقود لجواز الصلاة في الثياب التي تنسجها الكفار ما لم تتحقق نجاستها، كذا قرره إمام الشَّارحين.

(وقال الحسن) : هو البصري، التابعي، المشهور، مما وصله أبو نعيم بن حماد، عن معتمر، عن هشام، عن الحسن قال: (في الثياب)؛ بالتعريف، وفي رواية: (في ثياب)؛ بالتنكير؛ أي: التي (ينسُِجها) : من باب (ضرب يضرِب)، ومن باب (نصر ينصُر)، وقال ابن التين: (قرأناه بكسر السين المهملة)، كذا في «عمدة القاري»، فالسين في الأول: مكسورة، وفي الثاني: مضمومة، والضم هو الذي في «الفرع»؛ فتأمل.

(المجوس) : جمع المجوسي، وهو معرفة، سواء كان محلًّى بالألف واللام أم لا، والأكثر على أنه يجري مجرى القبيلة لا مجرى الحي في باب (الصرف)، وفي رواية الكشميهني والحموي: (المجوسي)؛ بالياء بلفظ المفرد، والمراد: الجنس، ولغيرهما: (المجوس)؛ بصيغة الجمع، والجملة صفة لـ (الثياب) في المسافة بين النكرة والمعرفة بلام الجنس قصيرة، فلذلك وصفت المعرفة بالنكرة؛ كما وصف اللئيم بقوله: (يسبُّني) في قول الشاعر:

ولقد أمر على اللئيم يسبُّني... . . . . . . . . . . . .

كذا في «عمدة القاري»؛ يعني: لأنَّ الجملة وإن كانت نكرة؛ لكن المعرفة بلام الجنس كالنكرة، ومنه قول الشاعر المذكور.

(لم ير) : على صيغة المعلوم؛ أي: لم ير (الحسن) : فيكون من باب التجريد، كأنه جرد من نفسه شخصًا، فأسند إليه، كذا في «عمدة القاري»، وزعم الكرماني أن (لم يُرَ) بصيغة المجهول؛ أي: القوم، انتهى.

قلت: وهو بعيد؛ لأنَّ الحسن مجتهد تابعي، كالإمام الأعظم، فلا يذكر كلام غيره، بل يذكر الحكم الذي ثبت عنده، كما لا يخفى، فصيغة المعلوم أظهر وأوضح؛ فافهم.

(بأسًا)؛ أي: حرجًا في لبسها قبل أن تغسل؛ لأنَّ الأصل الطهارة، والأصل: بقاء ما كان على ما كان ما لم يعلم نجاستها يقينًا، ولفظ الحسن على ما رواه أبو نعيم بن حماد: (لا بأس بالصلاة في الثوب الذي ينسجه المجوسي قبل أن يغسل)، وروى أبو نعيم الفضل بن دكين في كتاب (الصلاة) تأليفه عن الربيع، عن الحسن قال: (لا بأس بالصلاة في رداء اليهودي والنصراني) انتهى.

قلت: وهذا مذهب الإمام الأعظم وأصحابه والجمهور؛ لأنَّ الثياب على أصل الطهارة ما لم تتحقق نجاستها، فتجوز الصلاة بها وإن لم تغسل، ولا فرق بين أن ينسجها أو يلبسها المجوس واليهود والنصارى؛ فليحفظ، وبهذا قال الشافعي، وكره ذلك ابن سيرين، كما رواه ابن أبي شيبة.

قلت: وكأن [الحكم] الكراهة؛ لأنَّ هؤلاء لا يحترزون عن النجاسات، لكن نجاستها موهومة، والأحكام لا تبنى على الوهم، فتبقى الكراهة؛ فتأمل.

قال إمام الشَّارحين: (ومطابقة هذا الأثر للترجمة ظاهرة، وذكر الأثرين الأخيرين استطرادًا)، انتهى.

يعني: ليس فيهما

<<  <   >  >>