للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

(٤٧) [باب قول الله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا}]

هذا (باب قول الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: ٨٥]) وأراد بهذه الآية التنبيه على أن من العلم أشياء لم يطلع الله عليها نبيًا ولا غيره.

[حديث: بينا أنا أمشي مع النبي في خرب المدينة]

١٢٥ - وبه قال: (حدثنا قيس بن حفص) بن القعقاع؛ بعين مهملة بين القافين، الدارمي أبو محمد البصري، المتوفى سنة سبع وعشرين ومئتين، (قال: حدثنا عبد الواحد) : هو ابن زياد أبو بشر البصري، (قال: حدثنا الأعمش سليمان)، وفي رواية زاد: (ابن مهران) (عن إبراهيم) : هو ابن يزيد النخعي، (عن علقمة) : هو ابن قيس النخعي، (عن عبد الله) : هو ابن مسعود رضي الله عنه.

(قال بينا) أصلها: بين؛ فأشبعت الفتحة بالألف، والعامل فيها: جوابها وهو قوله: (فمرَّ...) إلخ: لا يقال: الفاء الجزائية تمنع عمل ما بعدها فيما قبلها، فلا يعمل مرَّ في (بينا)؛ لأنا نقول: بين الفاء وإذا أخوة؛ حيث استعملت الفاء هنا موضع إذا، والغالب أنَّ جواب (بينا) يكون بإذا أو إذا، وإن كان الأصمعي يستفصح تركهما، وتمامه في «عمدة القاري».

(أنا أمشي مع النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: مصاحبًا له (في خِرَب المدينة) المنورة؛ بكسر الخاء المعجمة، وفتح الراء، آخره موحدة، جمع: خربة، أو بفتح الخاء، وكسر الراء؛ جمع: خرب؛ مثل: كلمة وكلم يستوي فيه المفرد والجمع، وتحقيقه في «عمدة القاري»، وما زعمه ابن حجر مخالف لأهل اللغة، وعند المؤلف في غير هذا الموضع: (حَرْث بالمدينة)؛ بالحاء المهملة المفتوحة، وسكون الراء، والثاء المثلثة، وكذا رواه مسلم في جميع طرقه.

(وهو) عليه السلام (يتوكأ)؛ أي: يعتمد، والجملة إسمية وقعت حالًا (على عَسِيْب)؛ بفتح العين، وكسر السين المهملتين، وسكون التحتية، وهو العصا من جريد النخل (معه) : صفة لـ (عسيب)، (فمر بنفَر)؛ بفتح الفاء: عدة رجال من ثلاثة إلى عشرة (من اليهود)؛ باللام وبدونها معرفة، والمراد به: اليهوديون فحذفوا النسبة؛ للفرق بين المفرد والجمع، وسمُّوا بذلك؛ لتهوُّدهم؛ أي: تمايلهم في قراءة التوراة، وهذا بيان لـ (النفر).

(فقال بعضهم لبعض سلوه)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (عن الروح)، وعن فئة فقدوا في أول الزمان، وعن رجل بلغ مشرق الأرض ومغربها، (وقال) وفي رواية: (فقال) (بعضهم: لا تسألوه لا يجيء)؛ بالرفع على الاستئناف، والجزم على جواب النهي، والنصب على معنى: أن (بشيء تكرهونه)، فإنهم قالوا: إن فسَّر ذلك كله؛ فليس بنبي، وإن لم يفسر ذلك؛ فليس بنبي، وإن فسَّر البعض وأمسك عن البعض؛ فهو نبي، وذلك يكرهونه؛ لأنَّه مذكور عندهم في التوراة، وهو دليل على نبوته.

(فقال بعضهم) لبعض والله: (لنسألنه) عن ذلك، فهو جواب قسم محذوف، (فقام رجل منهم) لم يسم، (فقال: يا أبا القاسم ما الروح؟) وما الفئة التي فقدوا أول الزمان، وما الرجل الذي بلغ مشرق الأرض ومغربها، وسؤالهم عن الروح مشكل؛ لأنَّ الروح جاء في القرآن على معان منها: القرآن، وجبريل، أو الملائكة، أو عيسى، أو ملك له أحد عشر ألف جناح وألف وجه يسبح الله إلى يوم القيامة، وكان ابن عباس يكتم أمر الروح، والتحقيق أنَّ سؤالهم كان عن روح بني آدم وغيره من الحيوان؛ لأنَّه مذكور عندهم في التوراة أنَّه لا يعلمه إلا الله.

(فسكت) عليه السلام لمَّا سألوه، قال ابن عباس (فقلت) في نفسي: (إنه يوحى إليه) في ذلك؛ أي: أوحي إليه، وعبَّر بالمضارع عن الحال، (فقمت) عنه حتَّى لا أكون مشوِّشًا عليه، أو فقمت حائلًا بينه وبينهم، (فلما انجلى)؛ أي: انكشف وذهب (عنه) عليه السلام الغمُّ الذي كان يغشاه حال الوحي على عادته عليه السلام.

(فقال) وفي رواية: (قال: {أَمْ حَسِبْتَ (١) أَنَّ أَصْحَابَ الكَهْفِ} ... [الكهف: ٩]) إلى آخر القصة، و (قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القَرْنَيْنِ} ... [الكهف: ٨٣]) إلى آخر القصة، وقال: ({وَيَسْأَلُونَكَ})؛ بإثبات الواو كالتنزيل، وفي رواية: بدونها ({عَنِ الرُّوحِ قُلِ}) يا محمد لهم ({الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي})؛ أي: من الأمور التي اختصَّ الله بعلمها.

والأكثر على أنَّ النبي الأعظم عليه السلام لم يكن عالمًا به، لكن قال جماعة: ليس في الآية دليل على أن الروح لا تعلم، ولا على أن النبي الأعظم عليه السلام لم يكن يعلمها، فاختلفوا فيها فقيل: إنَّها جسم لطيف خلقه الله تعالى وأجرى العادة بأنَّ الحياة لا تكون مع فقده، فإذا شاء موته؛ أعدم هذا الجسم منه عند إعدام الحياة، وهذا الجسم وإن كان حيًّا فلا يحيى إلا بحياة تختصُّ به، وهو ممَّا يصحَّ عليه البلوغ إلى جسم ما من الجسم، وبكونه في مكان في العالم أو في حواصل طيور (٢) خضر.

وقيل: إنَّه صورة لطيفة على صورة الجسم لها عينان، وأذنان، ويدان، ورجلان في داخل الجسم يقابل كلُّ جزء منه وعضو نظيره من البدن، وهو خيال، وقيل: إنَّها جوهر محدث قائم بنفسه غير متحيِّز وإنَّه ليس بداخل الجسم ولا خارج عنه، وليس متصلًا به، ولا منفصلًا عنه، واعترض عليه بوجوه.

والذي اعتمده أهل السنة من المتكلَّمين: أنَّها جسم لطيف في البدن سار فيه سريان ماء الورد فيه، وقد ذكر بعضهم في الروح سبعين قولًا، واختلف هل الروح والنفس واحد أم لا؟ والأصح أنَّهما متغايران؛ لأنَّ النفس الإنسانية هي الأمر الذي يشير إليه كل واحد منا بقوله: أنا، وأكثر الفلاسفة لم يفرَّقوا بينهما، وقال بعض الحكماء والغزالي: النفس المجردة؛ أي: غير جسم ولا جسماني.

(«وما أوتوا»)؛ بصيغة الغائب في أكثر نسخ «الصحيحين»، وفي رواية: ({وَمَا أُوتِيتُم})؛ بالخطاب؛ موافقةً للمرسوم ({مِّنَ العِلْمِ})، وهو خطاب عامٌّ؛ لأنَّه عليه السلام لمَّا قال لهم ذلك؛ قالوا: (نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه؛ فقال: «بل نحن وأنتم»)، وقيل: خطاب لليهود خاصة؛ لأنَّهم قالوا للنبي الأعظم عليه السلام: (قد أوتينا التوراة فيها، وقد تلوت {وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: ٢٦٩])، فقيل لهم: إن َّعلم التوراة قليل في جنب علم الله تعالى، ولذا قال ({إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: ٨٥]) : استثناء من (العلم)؛ أي: إلا علمًا قليلًا، أو من الإيتاء؛ أي: إلا إيتاءً قليلًا، أو من الضمير؛ أي: إلا قليلًا منكم.

(قال الأعمش)؛ أي: سليمان بن مهران: (هكذا في)، وفي رواية: (كذا في)، وفي أخرى: (هكذا هي في) (قراءتنا)؛ يعني: (أوتوا)؛ بصيغة الغائب، قال في «عمدة القاري» : وليست هذه القراءة في السبعة، ولا في المشهور في غيرها، وقد أغفلها أبو عبيد في كتاب القراءة من قراءة الأعمش، وذكر مسلم الاختلاف في هذه اللفظة عن الأعمش، وهي مخالفة للثابت في المصحف؛ فهي قراءة شاذة.

واختلف الأصوليِّون فيما نقل آحادًا، ومنه: القراءة الشاذة؛ كمصحف ابن مسعود وغيره هل هو حجَّة أم لا؟

فأثبته إمامنا الإمام الأعظم والجمهور، ونفاه الشافعي، وبنى عليه الإمام الأعظم وجوب التتابع في صوم كفارة اليمين؛ بما نقل عن مصحف ابن مسعود من قوله: (ثلاثة أيام متتابعات)، فإذا لم يثبت كونه قرآنًا؛ فلا أقلَّ من كونه خبرًا، وقال الشافعي: إنَّ الراوي له إن ذكر أنه قرآن؛ فخطأ، وإلَّا فهو متردِّد بين أن يكون خبرًا أو مذهبًا له،


(١) في الأصل: (حسبتم).
(٢) في الأصل: (صيور).

<<  <   >  >>