للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

والكفين)؛ بالنَّصب فيهما على المفعولية بإضمار (أعني)، أو التقدير: يكفيك أنْ تمسح الوجه والكفين.

وردَّه إمام الشَّارحين؛ حيث قال: (قلتُ: هذا كلام من ليس له مس من العربية؛ لأنَّ التَّقدير الأول: يبقي الفعل ثلاثًا بلا فاعل، وهو لا يجوز، وفي الثاني: أخذ فاعله؛ فلا يحتاج إلى هذا التقدير؛ لعدم الدَّاعي إلى ذلك، والوجه ما ذكرناه) انتهى كلامه.

ثُمَّ قال: ويُستنبط منه: أنَّ التَّيمم: هو مسح الوجه والكفين لا غير، وإليه ذهب جماعة؛ منهم: أحمد ابن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، وهو قول الشَّافعي في القديم، رواه عنه أبو ثور، كما قاله النَّووي، وأنكره الماوردي وغيره، قال: (وهو إنكار مردود؛ لأنَّ أبا ثور ثِقة) انتهى.

والجُمهور على خلاف هذا كما بيناه فيما سبق.

قال إمام الشَّارحين: والمراد من هذا الحديث: بيان صورة الضَّرب؛ للتَّعليم، لا لبيان جميع ما يحصل به التَّيمم) انتهى.

قلتُ: يدلُّ عليه الأحاديث التي قدمناها من أنَّه عليه السَّلام قال: «التَّيمم ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المِرفقين»، وقياسًا على الوضوء، فإنَّه تعالى قال: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: ٤٣]، واليد: من رؤوس الأصابع إلى الكتف، والغاية في الوضوء دلت على الغاية في التيمم، و (الكفُّ) لا يقال له: يد عند أهل اللُّغة وغيرهم، فثبت أن المُراد بهذا: بيان التَّعليم، لا بيان الكيفية؛ فليحفظ.

وزَعمَ ابن حجر أنَّ سياق الكلام يدلُّ على أنَّ المُراد: جميع ما يحصل به التَّيمم؛ لأنَّ ذلك هو الظَّاهر من قوله: «إنَّما يكفيك»، انتهى.

قلتُ: وهذا مردودٌ، فإن سياق الحديث يدلُّ على التَّعليم؛ لأنَّ في مَعْرِض ذلك؛ لأنَّ عمَّارًا قد فعل التَّمعك، وحين جاءه عليه السَّلام قال له: «إنَّما يكفيك...»؛ إلخ، فهو بيان للتَّعليم، لا بيان وجه الكيفية، ولو كان مراده بيان الكيفية؛ لكان ضرب النَّبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يديه الأرض، وأراه صفة التَّيمم، فعبَّر عليه السلام بالكفين مجازًا عن اليدين؛ لأنَّهما أول اليدين، فعبَّر بالبعض عن الكُلِّ، ولهذا نظائر في لسان العرب وكلامهم.

وقوله: (لأنَّ ذلك هو الظَّاهر) غير ظاهر، بل هو فاسد؛ لأنَّه إذا كان في ذلك أحاديث كثيرة؛ بعضها مرفوع، وبعضها موقوف؛ كيف يعدل عنها إلى هذا مع مخالفته القرآن العظيم، وأفعال الصَّحابة رضي الله عنهم؟!

ومع هذا قال الحافظ أبو جعفر الطَّحاوي وغيره: (إن حديث عمَّار لا يَصلُح حجَّة في كون التَّيمم إلى الكفين، أو إلى الكوعين، أو إلى المرفقين، أو إلى المنكبين، أو إلى الإبطين، كما ذهبت إلى كلِّ واحدة طائفةٌ من أهل العلم، وذلك لاضطرابه كما رأيت؛ ولذلك قال التِّرمذي: (وقد ضعَّف بعض أهل العلم حديث عمَّار في التيمم للوجه والكفين كما روي عنه حديث المناكب والإباط) انتهى.

قلت: ولم يُنقل عن أحد من أهل العلم أنَّه ضعَّف رواية عمَّار في التَّيمم للوجه واليدين إلى المرفقين؛ لأنَّها رُوِيت مرفوعة إلى النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بأسانيد صحيحة؛ لأنَّها موافقة للقرآن الكريم، وقد رُويت أيضًا موقوفة، ورُويت آثار كثيرة عن الصَّحابة والتَّابعين فيها، وإذا انضمت الطُّرق بعضها إلى بعض؛ تقوَّت غاية التقوِّي، فلا سبيل إلى العُدول عنها، وقد بسطنا الكلام عليه في الباب السَّابق؛ فليحفظ.

٣٤٢ - وبالسَّند إليه قال: (حدثنا مُسلم) هو ابن إبراهيم الفراهيدي البَصريُّ (قال: حدثنا شُعبة) هو ابن الحجاج، (عن الحَكَم)؛ بفتحتين: هو ابن عُتيبة؛ بضمِّ العين المهملة، (عن ذرٍّ) هو ابن عبد الله الهمْداني، (عن ابن عبد الرَّحمن بن أبْزَى) هو سَعِيْد؛ بكسر العين المهملة، (عن عبد الرَّحمن) هو ابن أبْزَى، ووالد سَعِيْد المذكور (قال: شهدت) أي: حَضَرت (عُمر رضي الله عنهما) هو ابن الخطَّاب أمير المؤمنين رضي الله عنه (قال) وفي رواية: (فقال) (له) أي: لعُمر (عمَّار) هو ابن ياسر، والجملة محلها نصب؛ لأنَّها حالية، (وساق الحديث)؛ الألف واللام لـ (العهد)؛ أي: المذكور آنفًا، وهذه روايته الخامسة.

٣٤٣ - وبالسَّند إليه قال: (حدثنا محمَّد بن بشَّار) بالموحدة، وتشديد المعجمة (قال: حدثنا غُنْدَر)؛ بضمِّ الغين المعجمة، وسكون النون، وفتح الدال المهملة، وهو لقب محمَّد بن جعفر البَصري (قال: حدثنا شُعبة) هو ابن الحجاج، (عن الحَكَم)؛ بفتحتين: هو ابن عُتيبة؛ بضمِّ أوله، (عن ذرٍّ) هو ابن عبد الله الهمداني، (عن ابن عبد الرَّحمن بن أبْزَى) هو سَعِيْد؛ بكسر العين المهملة، (عن أبيه) هو عبد الرَّحمن بن أبْزَى المذكور: (قال عمَّار) بتشديد الميم: هو ابن ياسر (فضرب النَّبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) حين أخبره بما فعله في السفر (بيده) بالإفراد (الأرض) أي: وجهها (فمسح وجهه وكفيه)؛ يعني: بيد واحدة، ولا ريب أنه يصير مستعملًا وليس له وجه غير أنَّه مُضطرب الرِّواية، فلا يَصْلُح حجَّة أصلًا، ولم يسق المؤلف هذا الحديث تامًّا من رواية أحد من أشياخه الستة المذكورين، ولم يذكر جواب عُمر، وليس ذلك من المؤلف، وأخرجه البيهقي من طريق آدم كذلك، وذكر جوابه مسلم من طريق يحيى بن سَعِيْد، والنَّسائي من طريق حجاج بن محمَّد؛ كلاهما عن شُعبة، ولفظهما فقال: (لا تُصلِّ)، زاد السَّراج: (حتى تجد الماء)، وهذا مذهب عُمر، ووافقه عليه ابن مسعود، ولكن قدمنا أنهما رجعا عن ذلك كله، وقالا بجواز التَّيمم عن الجَنابة، كما قدمناه مفصَّلًا؛ فافهم.

والظاهر: أن المؤلف أراد بتعدد الرِّواية: بيان تعدد أشياخه في هذا الحديث كما هو عادته في جملة من الأبواب، وليس مُراده: التَّقوية؛ لما علمت من نصِّ الحافظ الطحاوي وما قاله الترمذي، وقد مضى الكلام في ذلك مستوفًى، والله تعالى أعلم، وأستغفر الله العظيم.

(٦) [باب الصَّعيد الطَّيِّب وضوء المسلم يكفيه من الماء]

هذا (بابٌ)؛ بالتنوين (الصَّعيد)؛ مبتدأ فعيل بمعنى: مفعول؛ أي: يُصعد عليه، أو فعيل بمعنى: فاعل؛ أي: صَاعدًا، وهذه الأشياء صاعدة فيعم جميع وجه الأرض لا خلاف (١) فيه بين أهلِ اللُّغة، كما قاله الأصمعي، والزجاج، (الطَّيِّب) صفة للمبتدأ: وهو الطَّاهر؛ لقوله تعالى: {حَلالًا طَيِّبًا} [البقرة: ١٦٨]؛ يعني: طاهرًا، ولقوله عليه السَّلام: «إن الله طيِّب يحب الطَّيِّب»، وهذا أليق المعاني به؛ لأنَّه قال تعالى في آخر الآية: {وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (٢) [المائدة: ٦]، (وَضوء المسلم)؛ بفتح الواو: ما يُتَوضأ به؛ يعني: ما يُطهره، بخلاف الكافر، فإنه إذا تيمم؛ لا يكون به مُسلِمًا؛ يعني: لم يُطهره، فلو أسلمَ، وهو مُتيمِّم، وأراد الصَّلاة بذلك التَّيمم؛ لا تصح به الصَّلاة إلا أن يجدِّده كما قدمناه، (يكفيه) أي: يُجزئه، ويُغنيه، (عن الماء) عند عدمه حقيقة أو حكمًا؛ كمن وجده في بئر وليس عِنده آلة أو عِنده حيَّة، أو عدوٌّ، أو غيرها.

قال إمام الشَّارحين: (ومثل هذه التَّرجمة روى البزار من طريق هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعًا إلى النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وصححه ابن القطان).

وقال الدَّارقطني: الصواب: إرساله، وروى أبو داود من حديث أبي قِلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذرٍّ قال: (اجتمعت


(١) في الأصل: (خلافًا)، وهو تحريف.
(٢) في الأصل: (ولكنْ لِيُطهِّركم به)، ربما اشتبه عليه الآية التي في سورة الأنفال: {لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} [الأنفال: ١١].

<<  <   >  >>