للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

غنيمة عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم...)؛ الحديث، وفيه: فقال: «الصَّعيد الطَّيِّب وَضوء المسلم، ولو إلى عشر سنين»، ورواه التِّرمذي أيضًا، وقال: (حديثٌ حسنٌ صحيحٌ)، ورواه النَّسائي، وابن حِبَّان في «صحيحه»، والحاكم في «مُستدركه»، وقال: (حديثٌ صحيحٌ)، ولم يخرجاه ولا يُلتفت إلى تضعيف ابن القطان لهذا الحديث بعمرو بن بجدان؛ لكون حاله لا يعرف، ويكفي تصحيح التِّرمذي إياه في معرفة حال عمرو بن بجدان، وكذا تصحيح الحاكم، و (بُجْدان)؛ بضمِّ الموحدة، وسكون الجيم، بعدها دال مهملة، وفي آخره نون، وقوله في الحديث: (ولو إلى عشر سنين) المُراد بها: الكثرةُ، لا العشرة بعينها، وتخصيص العشرة؛ لأجل الكثرة؛ لأنَّها مُنتهى عدد الكثرة؛ والمعنى: أنَّ له أن يفعل التَّيمم مرةً بعد أخرى وإن بلغت مدةُ عدم الماء إلى عشر سنين، وليس معناه: أنَّ التَّيمم دفعة واحدة يكفيه عشر سنين، كما قد يتوهم، قاله إمام الشَّارحين في «عُمدة القَاري» رحمه الكريم الباري.

(وقال الحسن) هو البصري (يُجزئه)؛ بضمِّ المثناة التحتية أوله، وبالهمزة، وفي آخره هاء، من الإجزاء، وهو لغةً: الكِفاية، وفي الاصطلاح: الأداء الكافي لسقوط التعبد به، وفي رِواية: (يجزيه)؛ بفتح المثناة التحتية الأولى، وسكون الثانية، وقال الجوهري: (جزأت بالشيء: اكتفيت به، وجزى عني هذا؛ أي: قضى، فهو على التَّقديرين لازم، فلعلَّ التَّقدير يقضي عن الماء) (التَّيمم) فحذف الجار، وأوصل الفعل، وعلى التقدير الأول: يكفيه التَّيمم الواحد، (ما لم يحدث)؛ أي: مدة عدم وجود الحدث، والقصد من هذا: أنَّ التَّيمم حُكمه حُكم الوضوء في جواز أداء الفرائض المتعددة به، والنَّوافل ما لم يحدث بأحد الحدثين، وهو قول الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، وبه قال الإمام أبو يوسف، والإمام محمَّد بن الحسن، وسُفيان الثَّوري، وعَطاء، وإبراهيم، وسَعِيْد بن المُسيِّب، والزُّهْرِي، والحسن بن حيٍّ، وداود بن عليٍّ، وهو المنقول عن ابن عباسٍ رضيَ الله عنهما، وهذا التَّعليق وصَله ابن أبي شيبة: حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن قال: (لا ينقض التيمم إلا الحدث)، وحكاه أيضًا عن إبراهيم، وعطاء.

ووصَله أيضًا عبد الرزاق، ولفظه: (يجزئ تيمم واحد ما لم يُحْدِث).

ووصَله أبو منصور أيضًا، ولفظه: (التَّيمم بمنزلة الوضوء إذا توضأت؛ فأنت على وضوء حتى تُحْدث).

وقال ابن حزم: روينا عن حمَّاد بن سَلَمَة -يعني: من «مُصنفه» -عن يونس بن عُبيد، عن الحسن قال: (يصلي الصلوات كلها بتيمم واحد؛ مثل الوضوء ما لم يُحْدِث).

قلتُ: وهذا أوضح وأصرح مما قاله المؤلف عنه؛ لأنَّه صريح في أنَّ التَّيمم مثل الوضوء في جواز أداء الفرائض المتعددة به والنَّوافل ما لم يحدث بحدث ما، وهذا مذهب الجُمهور، وخالفهم الشَّافعية فزعموا أنَّه يتيمم لكل صلاة فرض، وهو قول مالك، وأحمد، وإسحاق، وقَتادة، وربيعة، ويحيى بن سَعِيْد الأنصاري، وشريك، والليث بن سعد، وأبي ثور؛ لما رواه البيهقي عن ابن عُمر قال: (تيمَّم لكل صلاة ما لم تحدث)، وقول علي الصدِّيق الأصغر: (تيمَّم لكل صلاة)، رواه البيهقي أيضًا.

وروى الدَّارقطني عن ابن عباس أنَّه قال: (من السُّنة ألَّايُصلي بالتيمُّم أكثر من صلاةٍ واحدة)، وروي مثله عن عمرو بن العاص؛ ولأنَّ التَّيمم طهارة ضرورية، فإنَّ التُّراب ملوث في نفسه، ولهذا يعود حكم الحدث السابق عند رؤية الماء، فلم يرتفع الحَدث؛ لأنَّه لو ارتفع الحَدث؛ لم يعد إلا بحَدث جديد، ولكنْ أُبِيحت الصَّلاة للضرورة، فإذا صلى الفرض؛ فقد انتفت الضَّرورة، ولا تعود إلا بمجيء وقت آخر، وهي في حق النوافل دائمة؛ لدوام مشروعيتها، فتبقى بالنسبة إليها.

وأجيب: بأنَّ هذه الآثار كلها ضعيفة لا يُحتج بها، فإنَّ في:

سند الأوَّل: عمَّار (١)، فقد ضعفه ابن عُيينة، وأحمد ابن حنبل، وقال ابن خزيمة: (الرِّواية فيه عن ابن عُمر لا تَصُح).

وفي سند الثَّاني: الحارث الأعور، وهو ضعيف.

وفي سند الثَّالث: الحسن بن عمارة، فقال جماعة: هو مَتروك، وقد تكلَّموا فيه، وذكره مسلم في مقدمة كتابه في جملة من تكلم فيه، رواه عنه أبو يحيى الهمداني (٢)، وهو متروك.

وفي سند الرَّابع: الحجاج بن أرطأة، وهو ضعيف، ومع هذا فإن ظاهرها متروك؛ لأنَّهم يجوزون أكثر من صلاة واحدة من النوافل مع الفرض تبعًا له بشرط أنْ يُتيمَّم له، فلو تيمَّم لصلاة النفل؛ لا يجوز أن يؤدي الفرض به، وعلى عكسه؛ يجوز، وما هذا إلا تناقض على أنَّ قول ابن عباسٍ، وعَمرو بن العاص: (من السُّنة ألَّا يُصلي...) إلخ يدلُّ على النَّدب، والاستحباب لا الافتراض؛ لأنَّه جعل هذا من السُّنة، فإذا كان ذلك سُنة؛ جاز أن يؤدي به أكثر من فرض، ويكون تاركًا للسُّنة، وأيضًا صَريح هذه الآثار يدلُّ على تعميم النَّوافل أيضًا، فإنَّهم قالوا: لكلٍّ صلاة، وصلاة النَّفل صلاة شرعًا وعُرفًا، فكيف يفرقون؟!، وما هذا إلا قول بالرَّأي الغير السَّديد، ولأن اعتبار الحدث مانعية عن الصَّلاة شرعية لا يشكل معه أنَّ التَّيمم رافع؛ لارتفاع ذلك المنع به، وهو الحقُّ إذ لم يقم على أكثر من ذلك دليل، وتغير الماء برفع الحدث إنَّما يستلزم اعتباره نازلًا عن وصفه الأوَّل بواسطة إسقاط الفرض لا بواسطة إزالة وصف حقيقي مُدنَس.

والدَّليل لما قاله الجُمهور: إنَّ الصَّعيد طَهور بشرط عدم الماء بالنَّص وهو قوله تعالى: {فَلَمْ (٣) تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: ٤٣]، وقوله عليه السَّلام: «الصَّعيد الطَّيِّب وُضوء المُسلم ولو إلى عشر سنين»، كما قدمناه قريبًا، وقوله عليه السَّلام: «التُّراب طُهور المُسلم ولو إلى عشر حِجج ما لم يجدِ الماء»، رواه الشَّيخان، وقوله عليه السَّلام: «وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، رواه الشَّيخان أيضًا.

فلو قلنا: بأنَّه غيرَ طهور حالَ عدم الماء؛ لما تحقَّقت الخصوصيَّة؛ لأنَّ طهارةَ الأرض بالنَّسبة إلى سائر الأنبياء ثابتة، وإذا كان مطهرًا، فتبقى طهارته إلى وجود غايتها؛ وهو وجود الماء، والمعنى فيما قبله: أن للمحدث أن يصلي بالتَّيمم مرة بعد أخرى ولو إلى عشر سنين ما لم يُحدث أو يَجدِ الماء، ولأن هذه الآية والأحاديث مطلقة، فلا يجوز تقيدهابخبر الواحد، فكيف بالأثر؟ ومع هذا، فالآثار المذكورة أوهى من بيتِ العنكبوتِ، فكل ما هو طهورٌ بشرطِ؛ يعملُ عمله ما دامَ على شرطه؛ كالماءِ فإنه طهور بشرط كونه طاهرًا، ويعمل عمله ما دام شرطه موجودًا.

فإن قلتَ: هذه العبارة تقتضي أن يكون وجود الشرط مستلزمًا؛ لوجود المشروط، وليس كذلك؟

قلتُ: الشَّرط إذا كان مساويًا للمشروط؛ استلزمه وهنا كذلك، فإن كلَّ واحد من عدم الماء وجواز التَّيمم مساوٍللآخر لا محالة، فجاز أن يسلتزمه، وتمامه في «البحر الرائق» شرح «كنز الدقائق» للعلامة المحقق زين الدين


(١) في الأصل: (عامر)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (الهماني)، ولعله تحريف.
(٣) في الأصل: (فإن لم)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>