للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

(كفر)؛ أي: فكيف يحكم بتصويب قولهم: إن مرتكب الكبيرة غير فاسق مع حكم النبي الأعظم عليه السلام على من سب المسلم بالفسق ومن قاتله بالكفر، وقد عُلِم بهذا خطؤهم ومطابقة جواب أبي وائل لسؤال زُبَيد عنهم، وليس المراد بالكفر هنا حقيقته التي هي الخروج عن الملة، وإنما أطلق عليه الكفر؛ مبالغة في التحذير، معتمدًا على ما تقرَّر في القواعد على عدم كفره بمثل ذلك، أو أطلقه عليه؛ لشبهه به؛ لأنَّ قتال المسلم من شأن الكافر، أو المراد: الكفر اللغوي؛ وهو الستر؛ لأنَّه بقتاله له ستر ما له عليه من حق الإعانة والنصرة وكف الأذى، ولا نعني بهذا إلا هذا، فقد قال أئمتنا الأعلام: لا يُفتى بتكفير مسلم مهما أمكن، ولو وُجِدَ مئة قول بتكفيره وقولٌ واحد بعدم تكفيره؛ فالمفتى به عدم التكفير؛ لأنَّ تكفير المسلم أمر صعب، وهذا في غاية الاحتياط؛ فليحفظ.

[حديث: إني خرجت لأخبركم بليلة القدر]

٤٩ - وبه قال: (أخبرنا قتيبة بن سعيد) السابق، وفي رواية: بإسقاط (ابن سعيد)، وفي أخرى: (هو ابن سعيد) قال: (حدثنا إسماعيل بن جعفر) الأنصاري المدني، وقد مر، (عن حُميد)؛ بضم الحاء المهملة: ابن أبي حُميد، واسم أبي حُميد تِيْر؛ بكسر المثناة الفوقية، وسكون المثناة التحتية، آخره راء مهملة؛ أي: السهم، الخزاعي البصري، المتوفى سنة ثلاث وأربعين ومئة، (عن أنس) وفي رواية: (ابن مالك)، وفي أخرى: (حدثنا أنس)، وفي أخرى: (حدثني أنس)، وبهذا يحصل الأمن من تدليس حُميد (قال: أخبرني) بالإفراد (عبادة بن الصامت) رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج)؛ أي: من الحجرة، والجملة خبر (أنَّ) (يخبر) جملة مستأنفة، والأولى أن يكون حالًا مقدرة؛ لأنَّ الخبر بعد الخروج على حدِّ: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: ٧]؛ أي: مقدرين الخلود؛ كما حققه في «عمدة القاري»، (بليلة القدر) أي: بتعينها (فتلاحَى)؛ بفتح الحاء المهملة: من التلاحِي؛ بكسرها؛ أي: تنازع (رجلان من المسلمين)؛ هما عبد الله بن أبي حَدْرَد؛ بفتح الحاء المهملة، وسكون الدال المهملة، وفتح الراء، آخره دال أخرى، وكعب بن مالك؛ كان على عبد الله دين لكعب يطلبه، فتنازعا فيه ورفعا صوتيهما في المسجد (فقال) عليه السلام: (إني خرجت لأخبرَكم) بنصب الراء بـ (أن) المقدرة بعد لام التعليل، وهذا مقول القول، والضمير مفعول (أخبر) أول، وقوله: (بليلة القدر) سد مسد الثاني والثالث؛ لأنَّ التقدير: أخبركم بأن ليلة القدر هي الليلة الفلانية، (وإنه)؛ بكسر الهمزة؛ أي: الشأْن (تلاحى) تنازع (فلان) ابن أبي حدرد (وفلان) كعب بن مالك في المسجد وشهر رمضان، وزادت منازعتهما على القدر المباح في المسجد، فكانت لغوًا، وهو ليس بمحلٍّ للغو، مع ما كان في الزيادة من رفع الصوت بحضرة النبي الأعظم عليه السلام؛ فافهم.

(فرُفعت)؛ أي: رُفع بيانها أو علمها من قلبي؛ بمعنى: نسيتها، يدل عليه ما في رواية مسلم من حديث أبي سعيد: «فجاء رجلان يحتقَّان -بتشديد القاف؛ أي: يدعي كل منهما أنه محق- معهما الشيطان، فنسيتها»، فيعلم من هذا الحديث: أن سبب الرفع: النسيان، ومن حديث الباب: التلاحي، ويَحتمل أن يكون من كل منهما، والله أعلم، (وعسى أن يكون) رفعها (خيرًا لكم)؛ لتزيدوا في الاجتهاد في طلبها، وشذَّ قوم فقالوا برفعها، وهو غلط، ويدل عليه قوله: (التمسوها)؛ أي: اطلبوها؛ لأنَّ لو كان المراد رفع وجودها؛ لم يأمرهم بالتماسها، وفي رواية: (فالتمسوها) (في) ليلة (السبع) -بتقديم السين على الموحدة- والعشرين من رمضان، (والتسع) -بتقديم المثناة فوق على السين المهملة- والعشرين منه، (والخمس) والعشرين منه، والتقييد بالعشرين وبرمضان استفيد من الأحاديث الأُخَر الدالة عليهما، لا يقال: كيف يأمر (١) بطلب ما رفع علمه؟ لأنَّا نقول: المراد طلب التعبد في مظانها، وربما يقع العمل مصادفًا لها؛ لا أنَّه مأمور بطلب العلم بعينها، وفيه ذم الملاحاة والخصومة، وأنها سبب العقوبة للعامة بذنب الخاصة، والحث على طلب ليلة القدر.

(٣٧) [بابُ سؤال جبريل النبي عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة]

هذا (بابُ) بدون تنوين؛ لإضافته إلى قوله: (سؤالِ جبريلَ النبيَّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، والإسلام، والإحسان) بإضافة (سؤال) لـ (جبريل) من إضافة المصدر إلى فاعله، و (جبريل) لا ينصرف؛ للعلمية والعجمة، و (النبي) منصوب مفعول المصدر، و (عن الإيمان) متعلق بالسؤال، (و) عن (علمِ) وقت (الساعة) قُدِّر بالوقت؛ لأنَّ السؤال لم يقع عن نفس الساعة، بل عن وقتها بقرينة ذِكْر: (متى الساعة؟) (وبيانِ) بالجر عطفًا على (سؤال جبريل) (النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم له)؛ أي: لجبريل أكثر المسؤول عنه؛ لأنَّه لم يبين وقت الساعة؛ لأنَّ حكم معظم الشيء حكم كله، أو أن قوله عن الساعة: «لا يعلمها إلا الله» بيانٌ له؛ كما حققه في «عمدة القاري».

(ثم قال) عليه السلام، وعطف الفعلية على الاسمية؛ لأنَّ الأسلوب يتغير بتغير المقصود؛ فإنَّ المقصود من الكلام الأول: الترجمة، ومن الثاني: كيفية الاستدلال، فلتغايرهما تغاير الأسلوبان، وفيه خلاف عند النحاة: (جاء جبريل) عليه السلام (يعلمكم دينكم، فجعل) عليه السلام (ذلك كله دينًا)، ويدخل فيه اعتقاد وجود الساعة وعدم العلم بوقتها لغير الله تعالى؛ لأنَّهما من الدين، (وما بيَّن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس من الإيمان)؛ أي: مع ما بيَّن للوفد أن الإيمان هو الإسلام؛ حيث فسره في قصتهم بما فسر به الإسلام، (وقوله تعالى) وفي رواية: (وقول الله تعالى)، وفي أخرى: (عز وجل) : ({وَمَن يَبْتَغِ}) أي: يطلب ({غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً}) من الأديان ({فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}) [آل عمران: ٨٥]؛ أي: مع ما دلت عليه هذه الآية أن الإسلام هو الدين؛ لأنَّه لو كان غيره لم يقبل، فاقتضى ذلك أن الإيمان والإسلام شيء واحد، وهو اختيار المؤلف وجماعة من المحدثين، وهو مذهب إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، وهو المنصوص عن الشافعي، وقال أحمد ابن حنبل بتغايرهما؛ وقدمنا الكلام فيه.

[حديث: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله]

٥٠ - وبه قال: (حدثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم) بن سهم المشهور بابن عُلَيَّة؛ بضم العين المهملة، وفتح اللام، وتشديد المثناة التحتية؛ وهي أمه (قال: أخبرنا أبو حَيَّان)؛ بفتح الحاء المهملة وتشديد المثناة التحتية، يحيى بن سعيد بن حيان (التيمي)؛ نسبة إلى تيم الرباب، الكوفي، المتوفى سنة خمس وأربعين ومئة، و (حيان)؛ إما مشتق من الحياة فلا ينصرف، أو من الحين فينصرف؛ كما مر، (عن أبي زرعة) هرم بن عمرو بن جرير البجلي، (عن أبي هريرة) رضي الله عنه أنه (قال: كان النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم بارزًا) أي: ظاهرًا (يومًا للناس) غير محتجب عنهم، و (يومًا) نصب على الظرفية، وفي رواية أبي داود عن أبي فروة: (كان عليه السلام يجلس بين أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله عليه السلام أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكانًا من طين يجلس عليه، وكنا نجلس بجنبيه) (فأتاه رجل)؛ أي: مَلَك في صورة رجل، وفي رواية: (جبريل)، وفي «النسائي» : عن أبي فروة: (فإنا لجلوس عنده؛ إذ أقبل رجل أحسن الناس وجهًا، وأطيب الناس ريحًا، كأنَّ ثيابه لم يمسها دنس)، وفي رواية مسلم من حديث عمر: (بينما نحن ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر -وفي رواية ابن حبان (٢) : شديد سواد اللحية- لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي عليه السلام، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه)، ولسليمان التيمي: (ليس عليه سحناء؛ أي: هيئة سفر، وليس من البلد، فتخطى حتى برك بين يدي النبي عليه السلام كما يجلس أحدنا في الصلاة، ثم وضع يده على ركبتي النبي عليه السلام) (فقال) بعد أن سلم: (يا محمد)، كما في «مسلم»، وإنما ناداه باسمه كما يناديه الأعراب؛ تعمية بحاله، أو لأنَّ له حالة المعلم، وللمؤلف في (التفسير) : (فقال: يا رسول الله)؛ (ما الإيمان؟)؛ أي: ما متعلقاته؟ وقد وقع السؤال بـ (ما) ولا يُسأل بها إلَّا عن الماهية، (قال) عليه السلام: (الإيمان) كرره؛ للاعتناء بشأنه (أن تؤمن بالله)؛ أي: تصدق بوجوده وبصفاته الواجبة له تعالى والمستحيلة عليه تعالى، والظاهر أنه عليه السلام علم أنه سأله عن متعلقات الإيمان لا عن حقيقته، وإلَّا فكان الجواب: الإيمان التصديق، وإنما فسر الإيمان بذلك؛ لأنَّ المراد من المحدود: الإيمان الشرعي، ومن الحد: اللغوي، حتى لا يلزم تفسير الشيء بنفسه.

فإن قلت: لو كان حدًّا؛ لم يقل جبريل في جوابه: (صدقت)؛ كما في «مسلم»؛ لأنَّ الحد لا يقبل التصديق، أجيب: بأن قوله: (صدقت) تسليم، والحد يقبل التسليم ولا يقبل المنع؛ لأنَّ المنع طلب الدليل، والدليل إنَّما يتوجه للخبر، والحد تفسير لا خبر، وتمامه في «القسطلاني».

(وملائكته) جمع ملك، وأصله: ملائك (مفعل) من الألوكة؛ بمعنى: الرسالة، زيدت فيه التاء؛ لتأكيد معنى الجمع أو لتأنيث الجمع، وهم أجسام علوية نورانية مشكَّلة بما شاءت من الأشكال، والإيمان بهم: هو التصديق بوجودهم تفصيلًا فيما عُلم تعيينه كجبريل، أو إجمالًا فيما لم يعلم؛ كالأنبياء عليهم السلام، وأنهم كما وصفهم الله تعالى: {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: ٢٦]؛ أي: وأن تؤمن بملائكته، (و) أن تؤمن (بلقائه)؛ أي: برؤيته تعالى في الآخرة، قاله الخطابي، واعترضه


(١) في الأصل: (يؤمر)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (حيان)، وهو تصحيف.

<<  <   >  >>