بذلك؛ حيث قالت: (ضرب رجلي)، ومن المعلوم أن الضرب لا يكون بحائل، بل بدونه، كما لا يخفى، فبهذا ظهر أن الصَّواب: ما عليه الإمام الأعظم وأصحابه والجمهور: أن مس المرأة غير ناقض للوضوء؛ فليحفظ.
(فقبضت رجلَيَّ)؛ بفتح اللَّام، وتشديد التحتية، بصيغة التثنية؛ أي: ضممتهما عن مكان سجوده عليه السَّلام، يعني: أخَّرتهما عنه؛ ليسجد مكانهما، (فإذا قام) عليه السَّلام؛ أي: من السُّجود؛ (بسطهما)؛ بضمير التثنية؛ أي: رددتهما إلى مكانهما، (والبيوت) : مبتدأ، جمع بيت؛ وهو اسم للمكان الذي يبات فيه ليلًا (يومئذ) معناه: وقتئذ؛ أي: وقت إذ كان النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم حيًّا.
وقوله: (ليس فيها) أي: البيوت (مصابيح) : خبر المبتدأ، والجملة حالية أو مستأنفة، والمصابيح: جمع مصباح، قال إمام الشَّارحين: وإنما فسرنا قوله: (يومئذ) هكذا؛ لأنَّ المصابيح من وظائف الليل؛ فلا يمكن إجراء اليوم على حقيقة (١) معناه، وقد يذكر اليوم ويراد به الوقت، كما في قوله تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: ١٦]، وهذا اعتذار من عائشة عن نومها على هذه الهيئة، والمعنى: لو كانت المصابيح موجودة؛ لقبضت رجلي عند إرادته السُّجود، ولما احتجت إلى غمزي بيده، انتهى.
ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة؛ لأنَّه قد علم من عادة النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم أن صلاته للفرائض والواجبات كانت في المسجد بالجماعة، فتكون صلاته في بيته ليلًا نافلة تطوعًا.
وفي الحديث: دليل على أنَّ الصلاة خلف النائم ذكرًا كان أو أنثى جائزة من غير كراهة، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور.
وزعم ابن حجر: وفيه: إشارة إلى عدم الاشتغال بها فمَنْ أَمِنَ ذلك؛ لم يكن في حقه، انتهى.
قلت: وفيه بعدٌ؛ فإن المؤلف ليس مراده الاشتغال وعدمه بترجمته، وإنما مراده حكم صلاة التطوع خلف المرأة، وقد بين في الباب قبله حكم الصلاة خلف النائم، على أنَّه ليس في ذلك اشتغال أصلًا؛ لأنَّ البيوت لم يكن فيها مصابيح، وإن كان -كما في زماننا-؛ فإن المصلي يحبس نظره وخاطره في موضع سجوده، ولهذا لم تضر صلاته عليه السَّلام؛ فليحفظ.
وقال الكرماني: فإن قلت: لفظ التَّرجمة يقتضي أن يكون ظهر المرأة إلى المصلي؛ فما وجه دلالة الحديث عليه؟! قلت: لا نسلِّم ذلك الاقتضاء، ولئن سلَّمنا؛ فالسنة للنائم التوجه إلى القبلة، والغالب من حال عائشة أنها لا تتركها، انتهى.
واعترضه ابن حجر فقال: ولا يخفى تكلُّفه، وسنة ذلك للنائم في ابتداء النَّوم لا في دوامه؛ لأنَّه قد ينقلب وهو لا يشعر، انتهى.
قلت: واعتراضه مردود عليه وليس فيه تكلف؛ لأنَّ غمزه عليه السَّلام لعائشة إنَّما كان في ابتداء نومها، وهي لا تترك النَّوم على القِبْلة، ويدلُّ عليه أنها كانت راقدة لمَّا غمزها؛ قَبضَت رجليها، فلو كانت مستغرقة في النَّوم؛ لم تشعر بذلك؛ لأنَّ النائم لا يدرك شيئًا سواء كان في البيت مصابيح أو لم يكن؛ فافهم.
ثم زعم ابن حجر: والذي يظهر أن معنى: (خلف المرأة) : وراءها، فتكون هي نفسها أمام المصلي لا خصوص ظهرها، ولو أراده؛ لقال: خلف ظهر المرأة، والأصلعدم التقدير، انتهى.
قلت: واعترضه العجلوني فقال: الذي استظهره أشار إليه الكرماني أولًا، ولا يخفى ما في قوله: ولا يخفى تكلفه... إلخ؛ فتدبر، انتهى.
قلت: لقد أنصف العجلوني هنا، والعجب من الشَّارح المحقق حيث لم يتعرَّض إليه ولا عجب، فإن ما زعمه ابن حجر لا يقوله من شمَّ أدنى رائحة في العلم من تناقضه وركاكته، فلذا لم يعرِّج عليه، وعلى كل حال فما زعمه هذا القائل هو قد أخذه من كلام الكرماني، بل هو عينه، لكن قد غير عبارته بعبارة ركيكة، فلا حاجة إلى شغل الفكر لبيان ردها، كما لا يخفى؛ فافهم.
وزعم ابن حجر أن هذه الحالة غير الحالة التي تقدمت في صلاته عليه السَّلام إلى السرير التي كانت عليه؛ لأنَّه في تلك الحالة غير محتاج لأن يسجد مكان رجليها، وهو أولى من حمله على حالة واحدة، كما جنح إليه الإسماعيلي فيما سبق بأن يقال: كانت صلاته فوق السرير لا أسفل منه، انتهى.
قلت: وهذا بعيد جدًّا، فإن هذه الحالة هي عين الحالة التي تقدمت في صلاته إلى السرير؛ لأنَّ قولها هناك: فيجيء النَّبي صلى الله عليه وسلم فيتوسط السرير؛ معناه: يجعل نفسه في وسط السرير، كما يدل عليه اللَّفظ، وفي هذه الحالة يحتمل أنها كانت تقبض رجليها حتى يسجد مكانهما، ويحتمل أن السرير واسع لا يحتاج فيه إلى ذلك، والحمل على الحالة الواحدة هو الصَّواب لما ذكرناه، وما زعمه من الأولوية مردود؛ لعدم ما يدل عليها من شيء، والإسماعيلي أدرى بالمراد من الحديث، فجعله صلاته فوق السرير لا أسفل منه هو الصَّواب، كما لا يخفى؛ فافهم.
وفي الحديث: جواز صلاة الرجل إلى المرأة، وأنها لا تقطع صلاته، وفيه: أن العمل في الصلاة غير قادح إذا كان يسيرًا، وهو مفوَّض إلى رأي المصلي، أو ما يعده الناظر يسيرًا، أو ما كان دون ثلاث حركات، وفيه: جواز الصلاة إلى النائم، وفيه أن لمس المرأة غير ناقض للوضوء، وهذا الحديث مع بقية مباحثه قد تقدم في باب (الصلاة على الفراش)، والله تعالى أعلم.
(١٠٥) [باب من قال: لا يقطع الصلاة شيء]
هذا (باب) بيان قول: (من قال لا يقطع) أي: لا يفسد (الصلاة شيء)؛ أي: من غير فعل المصلي أو من مرور الكلب، والمرأة، والحمار، وغيرها، وأشار المؤلف بهذه التَّرجمة إلى الردِّ على من يقول: يقطع الصلاة مرور هذه الثلاثة، وإنما لم يخصها بالترجمة، بل عمَّم؛ ليشملها وغيرها، والمراد بالقطع: الفساد والبطلان، وهذه التَّرجمة لفظ حديث أخرجه الدارقطني عن سالم مرفوعًا، ورواه أبو داود عن أبي سعيد مرفوعًا، ورواه الدارقطني عن أنس وأبي أمامة، ورواه الطَّبراني عن جابر مرفوعًا، ورواه سعيد بن منصور عن علي وعثمان موقوفًا.
فإن قلت: إذا كانت التَّرجمة لفظ حديث مرفوع؛ كان عليه أن يترجم بغيره ويذكر الحديث على عادته.
قلت: الحديث المذكور ليس على شرطه، على أنَّه قد نصَّ الحُفَّاظ على ضعف أسانيده، لكن ما رواه سعيد بن منصور إسناده صحيح، لكنه موقوف، فإذا كان الأمر كما ذكرنا؛ اختار الإمام البخاري أن يجعل الحديث ترجمة لِبابٍ مستقل؛ فافهم.
[حديث: شبهتمونا بالحمر والكلاب والله لقد رأيت النبي]
٥١٤ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عُمر بن حفص)؛ بِضَمِّ العين، زاد أبو ذر: (ابن غياث) (قال: حدثنا أبي) هو حفص بن غياث، (قال: حدثنا الأعمش) هو سليمان بن مهران الكوفي، (قال: حدثنا إبراهيم)، ولابن عساكر: (عن إبراهيم) هو النخعي، (عن الأسود) هوابن يزيد النخعي، وهو خال إبراهيم، (عن عائشة) : هي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما.
(وقال الأعمش)؛ بالواو العاطفة على الإسناد السَّابق، فهو موصول مقول حفص، وتردَّد الكرماني فقال: هذا إما تعليق وإما داخل تحت الإسناد الأول سواء كان بكلمة (ح) مهملة كما في بعض النُّسخ أو لم يكن، انتهى، لكن جزم الشراح بأنه موصول داخل تحت الإسناد الأول، وظاهر اللَّفظ يدل عليه، فلا وجه لتردُّده؛ فافهم، (حدثني)؛ بالإفراد، وهذا تحويل من سند إلى سند آخر سواء كان بكلمة (ح) مهملة كما في بعض النُّسخ أو لم يكن، (مسلم) هو أبو الضُّحى ابن صبيح، (عن مسروق) هو ابن الأجدع، (عن عائشة) : هي الصديقة بنت الصديق
(١) في الأصل: (حقيقته)، ولعله تحريف.