الأكبر رضي الله عنهما، (قال)؛ أي: إن مسروقًا قال: (ذُكِر)؛ بِضَمِّ الذَّال مبني للمفعول (عندها) أي: بحضرة عائشة (ما يقطع) أي: يبطل (الصلاة)، وكلمة (ما) موصولة، ويجوز فيها وجهان؛ أحدهما: أن يكون مبتدأ وخبره قوله: (الكلب) والجملة محلها النصب مفعول ما لم يسم فاعله؛ وهو (ذُكِر) على صيغة المجهول، وثانيهما: أن يكون (ما) مفعول ما لم يسم فاعله، ويكون قوله: (الكلب) بدلًا منه، أفاده الشَّارح، (الكلبُ)؛ بالرفع، كما ذكرنا، ويجوز أن يكون (الكلب) فاعلًا لفعل محذوف، يدل عليه رواية علي بن مسهر: (ذكر عندها ما يقطع الصلاة فقالوا: يقطعها الكلب) (والحمار والمرأة)؛ بالرفع فيهما، وزعم العجلوني أنه يجوز نصب (الكلب) وما بعده مفعول لمحذوف نحو: فذكروا الكلب، وقد صرح بهذا الفعل في بعض الأصول الصَّحيحة، انتهى.
قلت: الروايات الصَّحيحة كما ذكرنا، وما زعمه إن ساعدته الرواية؛ فله وجه، وكون الفعل مصرَّحًا به؛ الله أعلم به؛ لأنا لم نر أحدًا من الشراح قد ذكر هذا؛ فتدبر، والذاكرون عندها هم ابن أختها عروة، وأبو هريرة، وأبو ذر، وابن عبَّاس رضي الله عنهم؛ لما في «مسلم» من طريق عروة: (قالت عائشة: ما يقطع الصلاة؟ قال: قلت: المرأة والحمار...)؛ الحديث، وفي «ابن عبد البر» من رواية القاسم قال: بلغ عائشة أن أبا هريرة يقول: إن المرأة تقطع الصلاة، وحديث أبي ذر عند مسلم، وحديث ابن عبَّاس عند ابن ماجه؛ فليحفظ.
(قالت) أي: عائشة رضي الله عنها: (شبهتمونا بالحمير والكلاب؟!)؛ بالجمع فيهما، ورواه مسلم عنها بلفظ: (قالت: عدلتمونا بالكلاب والحمير؟!)، وهما بمعنًى، وتقدم من طريق علي بن مسهر بلفظ: (جعلتمونا كلابًا؟!) وهو تشبيه بليغ، وخطابها إنَّما كان لابن أختها عروة، ولأبي هريرة، ولأبي ذر، وابن عبَّاسرضي الله عنه، كما دلت عليه الروايات السَّابقة.
قال ابن مالك: في هذا دليل على جواز تعدي المشبه به بالباء، والمشهور تعدية مشبه إلى مشبه ومشبه به بدون باء، كقول امرئ القيس:
فشبهتهم في الآل لما تكمشوا... حدائق دوم أو سفينًا مُقيرًا
وقد كان بعض المعجبين يخطِّئ سيبويه وغيره في قولهم: شبه كذا بكذا، وليس زعمه صحيحًا، بل سقوط الباء وثبوتها جائزان، وسقوطها أشهر في كلام القدماء، وثبوتها لازم في عرف العلماء المتأخرين، انتهى.
وأخرج الإمام الحافظ أبو جعفر الطَّحاوي هذا الحديث من سبع طرق صحاح، وروى مسلم، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم يصلي؛ فإنَّه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل؛ فإنَّه يقطع صلاته الحمار، والمرأة، والكلب الأسود» قلت: يا أبا ذر؛ ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر ومن الكلب الأصفر؟ قال: يا بن أخي؛ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال: «الكلب الأسود شيطان»، وأخرجه الأربعة أيضًا مختصرًا ومطولًا، وقيَّد الكلب في روايته بالأسود.
وروى ابن ماجه من حديث ابن عبَّاس عن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم قال: «يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة الحائض»، وقيَّد المرأة بالحائض في روايته، فهذا يدل على أنَّ الكلب الأسود والمرأة الحائض والحمار يقطع الصلاة، وهو مروي عن أنس، ومكحول، وأبي الأحوص، والحسن، وعكرمة، وعن عكرمة: (يقطع الصلاة الكلب، والحمار، والخنزير، والمرأة، واليهودي، والنصراني، والمجوسي)، وعن عطاء: (لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود والمرأة الحائض)، وقال أحمد ابن حنبل: (يقطع الصلاة الكلب الأسود والبهيم)، وعنه: (يقطعها أيضًا الحمار والمرأة)، وقال الظَّاهرية: يقطع الصلاة الكلب، والحمار، والمرأة؛ للحديث المذكور.
وقال الأئمة الحنفية وتبعهم المالكية والشَّافعية: إنَّه لا يقطع الصلاة الكلب الأسود، ولا الحمار، ولا المرأة ولو حائضًا؛ لما رواه البخاري عن ابن عباس قال: (أقبلتُ راكبًا على حمار أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الحُلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس يمضي إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت، وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف؛ فلم ينكر ذلك عليَّ أحد)، وأخرج أيضًا عن عون بن أبي جحيفة قال: (سمعت أبي يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم بالبطحاء -وبين يديه عنزة- الظُّهر ركعتين والعصر ركعتين يمر بين يديه المرأة والحمار)، وكذلك حديثي الباب، وأخرج أبو داود عن الفضل بن عبَّاس قال: (أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في بادية ومعه ابن عبَّاس فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارة لنا وكلبة تعبثان بين يديه فما بال ذلك؟)، وأخرجه النسائي أيضًا، وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقطع الصلاة شيء وادرؤوا ما استطعتم؛ فإنما هو شيطان»، وروى الدارقطني عن ابن عمر مثله، وأبي أمامة وأنس نحوه، وروى الطَّبراني في «الأوسط» عن جابر نحوه.
فإن قلت: حديث أبي سعيد، وابن عمر، وأبي أمامة، وأنس رضي الله عنهم زعم ابن الجوزي أنَّه لا يصح منها شيء، وزعم ابن حبان أنه لا يحل الاحتجاج بها.
قلت: نصَّ الحفاظ وغيرهم أنَّه لا عبرة بوضع ابن الجوزي فإنَّه متعصِّب، ومثلهابن حبان، على أنَّه قد رويت بطرق مختلفة عن عدة صحابة وبه تتقوى وترتقي، وليس يتعين علينا الاستدلال بها، بل يكفينا ما روى البخاري.
وقال النَّووي: (وتأوَّل الجمهور القطع المذكور على قطع الخشوع جمعًا بين الأحاديث) انتهى.
قلت: وفيه نظر لأنَّ الخشوع ليس بشرط في الصلاة، ولا يلزم الجمع؛ لأنا نقول: أحاديث الجمهور أقوى وأصح من أحاديث من خالفهم، والأخذ بالأقوى أولى؛ فافهم، فإن حديث ابن عبَّاس صريح في الاستدلال؛ لأنَّ حماره قد مرَّ بين يدي النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، كما رواه البزار، ودل حديث عائشة المذكور على أنَّ المرور بين يدي المصلي لا يقطع صلاته، وكذلك دل حديث أم سلمة وميمونة بنت الحارث،؛ فأخرج الإمام الطَّحاوي حديث أم سلمة، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة قالت: (كان يُفرَش لي حِيَال مُصلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وإني حياله)، وأخرجه أحمد في «مسنده»، وأخرج الطَّحاوي حديث ميمونة عن عبد الله بن شداد قال: حدثتني خالتي ميمونة بنت الحارث قالت: (كان فراشي حِيَال مُصلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فربما وقع ثوبه عليَّ وهو يصلي)، وأخرجه أبو داود ولفظه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا حذاءه وأنا حائض، وربما أصابني ثوبه إذا سجد، وكان يصلي على الخُمرة)، والمصلَّى؛ بفتح اللَّام؛ وهو الموضع الذي كان يصلي فيه النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في بيته، وهو مسجده الذي عينته للصلاة فيه، والخُمرة؛ بِضَمِّ الخاء المعجمة: حصير صغير يُعمَل من سعف النخل وينسج بالسيور والخيوط، وهي على قدر ما يوضع عليه الوجه والأنف.
فإن قلت: ما استدل به الجمهور مطلق، وحديث القطع مقيدن وهو يقضي على المطلق.
قلت: أجاب الإمام الحافظ أبو جعفر الطَّحاوي فقال: قد تواترت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يدل على أنَّ بني آدم لا يقطعون الصلاة، وقد جعل كل مار بين يدي المصلي شيطانًا في حديثي ابن عمر وأبي سعيد، وأخبر أبو ذر: أن الكلب الأسود إنَّما يقطع الصلاة؛ لأنَّه شيطان، فكانت العلة التي لها جعلت لقطع الصلاة قد جعلت من بني آدم أيضًا، وقد ثبت عن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: أنهم لا يقطعون الصلاة، فدل على أنَّ كل مار بين يدي المصلي سوى بني آدم كذلك أيضًا لا يقطع الصلاة، والدليل على صحة ما ذكرنا: أن ابن عمر مع روايته ما ذكرنا عنه عليه السَّلام قد روي عنه من بعده: حدثنا يونس: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن سالم قال: قيل لابن عمر: إن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة يقول: (يقطع الصلاة الكلب والحمار)، فقال ابن عمر: (لا يقطع