للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

لدفن موتاهم، لا يجوز لأحد أن يملكها، فإذا دَرَست، واستغني عن الدفن فيها؛ جاز صرفها إلى المسجد؛ لأنَّ المسجد أيضًا وقف من أوقاف المسلمين لا يجوز تمليكه لأحد، فمعناهما على هذا واحد» (١)، وذكر أصحابنا: أنَّ المسجد إذا خرب ودثر، ولم يبق حوله جماعة، والمقبرة إذا عفت ودثرت؛ تعود ملكًا لأربابها، فإذا عادت ملكًا؛ يجوز أن يبني موضع المسجد دارًا، وموضع المقبرة مسجدًا، وغير ذلك، فإذا لم يكن لها أرباب؛ تكون لبيت المال) انتهى.

قلت: والظاهر أنَّ هذا مذهب مالك، وفيه نظر؛ لأنَّ المسجد، ولو خرب؛ يبقى مسجدًا إلى يوم القيامة؛ لأنَّ الواقف وقفه على جهة برٍّ لا تنقطع أبدًا، فلا يجوز بيعه ولو خرب؛ لأنَّ الوقف إذا حكم به الحاكم؛ خرج عن مِلك صاحبه، ولا يعود إليه أبدًا.

فإذا خرب المسجد ودثر؛ قال الإمام الناطفي: (يؤاجر قطعة منه بقدر ما ينفق عليه) كذا في «الظهيرية» الفتاوى المشهورة، وقال في «جواهر الفتاوى» : (إذا خرب المسجد، وتفرق أهله، وبعض المتغلبة قد يستولوا على خشبه؛ فإنَّه يجوز أن يباع الخشب بإذن القاضي، ويمسك الثمن، ويصرفه إلى بعض المساجد، أو إلى هذا المسجد)، وقال السيد أبو شجاع: (رباط خَرِب، وهو في بعض الطرق، ولا تنتفع به المارة، وله أوقاف، قال: يجوز صرفها إلى رباط آخر ينتفع به المارة) انتهى.

وعلى هذا المقبرة؛ فإنَّه يؤاجر منها قطعة، ويصرف عليها؛ لأنَّ الوقف يبقى أبدًا مدى الدهر؛ فافهم، هذا مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين رضي الله عنه.

(٤٩) [باب الصلاة في مرابض الغنم]

هذا (باب) حكم (الصلاة في مرابض الغنم) جمع مَربِض؛ بفتح الميم وكسر الموحدة؛ لأنَّه من ربض يربِض؛ مثل ضرب يضرِب، يقال: ربض في الأرض: إذا ألصق بها وأقام ملازمًا لها، واسم المكان: مربض؛ وهو مأوى الغنم، وربوض الغنم مثل بروك الإبل، وفي «الصحاح» : (ربوض الغنم، والبقر، والفرس، والكلب مثل بروك الإبل، وجثوم الطير).

والغنم: اسم جنس جمعي؛ كالإبل، يقع على الذكر والأنثى، وإذا صغرتها؛ قلت: غنيمة؛ لأنَّ أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين؛ فالتأنيث لازم لها، انتهى، كذا قاله إمام الشَّارحين.

وزعم العجلوني أنَّ في بعض الأصول: (في مواضع) بدل (مرابض).

قلت: والمشهور: الأول، والله أعلم بصحة ذلك؛ لأنَّه لم يَعْزُه لأحد من الرواة، فيحتمل أنَّه تحريف من النساخ، وقد انتهت الجهالة إلى ابن حجر، فزعم أنَّ (مِربض)؛ بكسر الميم، قال إمام الشَّارحين: (وهو غلط منه) انتهى.

وانتصر العجلوني لابن حجر تعصبًا، فزعم أنَّه يتكلف له بجعله اسم آلة تجوزًا؛ كالمنبر، فلا غلط، انتهى.

قلت: وهذا فاسد؛ لأنَّ مرابض الغنم: مأواها ومواضعها، وليس آلة للصلاة فيها، كما زعمه، فإنَّ اسم الآلة ما يعمل باليد؛ كالملقط والقدوم، وهذا ليس كذلك، ولا حاجة إلى هذا التكليف الغير الموافق للأصول الصرفية، وقوله: (تجوُّزًا) ممنوع، فإنَّه إذا أمكن العمل بالحقيقة؛ لا يجوز العمل بالمجاز عند المحققين، وقوله: (كالمنبر) ممنوع أيضًا، فإنَّه آلة لرُقيِّ الخطيب عليه، وليس هو مثل المربض، وبينهما فرق بيِّن (٢)، وعلى كل حال؛ فما قالاه غلط وفاسد، والعناد بعد ذلك مكابرة؛ فافهم.

قال إمام الشَّارحين: (وجه المناسبة بين البابين من حيث إنَّ المذكور في هذا الباب بعينه طرفٌ من الحديث المذكور في الباب السابق، لكنَّ المذكور هناك أنَّه عليه السَّلام كان يحب الصلاة حيث أدركته إذا دخل وقتها، سواء كان في مرابض الغنم أو غيرها، والمذكور ههنا أنَّه كان يصلي في مرابض الغنم قبل أن يبني المسجد) انتهى.

[حديث: كان النبي يصلي في مرابض الغنم]

٤٢٩ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا سليمان بن حرب)؛ بالحاء المهملة والراء المهملة، ضد الصلح، هو الأزدي، الواشحي، البصري، قاضي مكة (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج البصري، (عن أبي التيَّاح)؛ بفتح الفوقية، وتشديد التحتية، آخره مهملة، هو يزيد بن حميد الضبعي، البصري، (عن أنس) زاد الأصيلي: (ابن مالك)، هو الأنصاري أنه (قال: كان) هي للدوام والاستمرار (النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي) أي: الفرائض، والواجبات، والسنن، وجملة (يصلي) محلها نصب خبر كان، و (النبيُّ)؛ بالرفع اسمها (في مرابض الغنم)؛ بفتح الميم وكسر الموحدة؛ أي: مأواها، وهو متناول لما كان بعد بناء مسجده أو قبله، ويدل عليه التعبير بـ (كان) الدالة على الدوام والاستمرار، ففيه دليل على طهارة بول مأكول اللحم وروثه؛ لأنَّ المرابض لا تخلو عن ذلك، فدلَّ على أنَّهم كانوا يباشرونها في صلاتهم، فلا تكون نجسة، وهذا قول الإمام محمد بن الحسن، ومالك، والشعبي، والنخعي، وعطاء، والزهري، والثوري، وابن سيرين، وابن المنذر، وابن حبان، وابن خزيمة، والرُّوياني، والإصطخري من الشافعية، ويدلُّ لهم ما في قصة رعل وذكوان: أنَّهم شربوا أبوال الإبل بأمره عليه السَّلام لهم.

وذهب الإمام الأعظم والإمام أبو يوسف رضي الله عنهما إلى أنَّ أبوال مأكول اللحم وروثه نجس نجاسة مخففة؛ حيث يعفى عن ربع الثوب المصاب منها، والدليل عليه: أنَّه عليه السَّلام صلى في مرابضها، ولا ريب أنَّ من صلى فيه يتلوث منها بشيء (٣)، وهو قدر ربع الثوب، فهو معفوٌّ عنه، وما زاد على ذلك يؤاخذ به.

وذهب الشافعي إلى أنَّ الأبوال كلها نجسة.

قال ابن المنذر: (أجمع كل من يُحفظ عنه العلم على إباحة الصلاة في مرابض الغنم إلا الشافعي، فإنَّه قال: «لا أكره الصلاة في مرابض الغنم إذا كان سليمًا من أبعارها وأبوالها»).

ورُدَّ بأنَّه عليه السَّلام قد صلى في مرابضها وهي لا تخلو عن أبعارها وأبوالها.

وقد صلى فيها ابن عمر، وجابر وأبو ذر، والزبير، والحسن، وابن سيرين وغيرهم، وأجازوا الصلاة فيها، فدلَّ ذلك على طهارة أبعارها وأبوالها.

واعترض بأنَّه عليه السَّلام كان يصلي فيها على


(١) في الأصل: (واحدًا)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (فرقًا بينًا)، وليس بصحيح.
(٣) في الأصل: (شيء)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>