(عَلَيْنَا)؛ أي: على النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ومن كان أميرًا بعده إلى قيام الساعة (دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ) فلا يجوز التعرُّض لهم حينئذ بدم ولا أخذ مال (إِلَّا بِحَقِّهَا)؛ أي: إلا بحق الدماء والأموال، وذلك من قتل نفس أو حد من الحدود، أو ضمان مال بأن أتلف شيئًا، فيقتص منه في ذلك؛ لأنَّهم حينئذٍ غير معصومين؛ لأنَّ الله تعالى حكم على القاتل بالقتل، والزاني بالرجم أو الجلد، وتارك الصلاة بالحبس والضرب، والغاصب بالضمان، ومتلف الأموال بالمال، وغير ذلك، ومن ذلك زكاة الأموال، والعشر للغنم والبقر والمعز والإبل ونحوها.
وعند المؤلف في باب (فإن تابوا وأقاموا الصلاة) عن ابن عمر: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام...»؛ الحديث، فهو محمول على أهل الكتاب المقرين بالتوحيد الجاحدين لنبوة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عمومًا وخصوصًا.
وفي حديث أبي هريرة عند المؤلف في (الجهاد) الاقتصار على قول: «لا إله إلا الله...»؛ الحديث، وهو محمول على أنه عليه السَّلام قاله في وقت قتاله للمشركين.
وأمَّا حديث الباب محمول على من دخل الإسلام ولم يعمل الصالحات؛ كترك الجمعة والجماعة؛ فيقاتل حتى يذعن لذلك.
(وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله)؛ أي: حسابهم بعد ذلك في أمر سرائرهم على الله تعالى، وأمَّا نحن؛ فإنما نحكم عليهم بالظاهر، فنعاملهم بمقتضى ظواهر أقوالهم وأفعالهم، ويحتمل المعنى هذا القتال وهذه العصمة إنَّما هما باعتبار أحكام الدنيا المتعلقة بنا، وأمَّا أمور الآخرة من الجنة والنار والثواب والعقاب؛ فمفوض إلى الله تعالى، ولفظة: (على) مشعرة بالإيجاب، فظاهره غير مراد، فإمَّا أن يكون المراد: وحسابهم إلى الله، أو لله، أو أنه يجب أن يقع ذلك لا أنه تعالى يجب عليه شيء، خلافًا للمعتزلة القائلين بوجوب الحساب عقلًا، فهو من باب التشبيه له بالواجب على العباد في أنه لا بد من وقوع ذلك.
واقتصر على الصلاة؛ لأنها عماد الدين كما ثبت في الحديث، ولم يذكر الزكاة هنا؛ لأنها داخلة في قوله: «إلا بحقها»، فإن الحق في الأموال الزكاة ونحوها.
ففي الحديث: قبول الأعمال الظاهرة، والحكم بما يقتضيه الظاهر.
وفيه: الاكتفاء في قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم، خلافًا لمن أوجب تعلم الأدلة.
وفيه: ترك تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد الملتزمين للشرع، والحق أنَّ المعتزلة فسقة لا كفار، كما دل عليه هذا الحديث وغيره.
وفي الحديث: قبول توبة الكافر سواء كان كفرًا ظاهرًا أو باطنًا.
وزعم ابن المنيِّر أن في الحديث: دليل على قتل تارك الصلاة، وذكره القسطلاني عنه وطول كلامه، وكلاهما غير ظاهر، والحديث لا يدل على ما قاله؛ لأنَّ قوله: «فإذا قالوها وصلوا صلاتنا؛ حرمت دماؤهم» شرط، ومفهومه: أنَّهم إذا قالوها وامتنعوا من الصلاة كسلًا أو نحوه مع اعتقادهم فرضيتها عليهم، كذلك تحرم دماؤهم، أمَّا إذا جَحَدُوا فرضيتها أو لم يفعلوها استخفافًا؛ فحينئذ لم تحرم دماؤهم، لأنَّه عليه السَّلام قد رتب استصحاب سقوط العصمة على ترك الإقرار بفرضيتها لا على تركها، يدل عليه أن الذبيحة لا يقتل تاركها إجماعًا، فكذا هذا، وقولهم: إن الإجماع أخرج الذبيحة فقط؛ مردود، فإنه تخصيص بلا مخصص وترجيح بلا مرجح، فإن النبيَّ الأعظم عليه السَّلام قد جعل هذه الثلاثة أعلى أركان الدين، ولم يفصل بينها بشيء، فعلم منه أنها سواء في الحكم، فثبت بذلك أن تارك الصلاة كسلًا لا يقتل؛ فليحفظ، وهو الصواب، وقد سبق هذا الحديث في باب (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة)، ومر الكلام عليه مستوفًى.
[حديث: من شهد أن لا إله إلا الله واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل]
٣٩٣ - (قال) أي: المؤلف: (وَقَالَ) بالواو (عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ) : هو المديني: (حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ)؛ بالمثلثة: هو البصري (قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ)؛ بضم الحاء المهملة: هو الطويل التابعي (قَالَ: سَأَلَ مَيْمُونُ)؛ بفتح الميم الأولى وضم الثانية بينهما تحتية ساكنة (بنُ سِيَاهٍ)؛ بكسر السين المهملة في آخره هاء (أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ) : هو الأنصاري خادم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم.
قال إمام الشَّارحين: (وهذا معلق وموقوف، أمَّا التعليق؛ فقوله: «قال: قال علي بن عبد الله»، ففاعل «قال» الأول: هو البخاري، وفاعل «قال» الثاني: ظاهر وهو شيخه علي ابن المديني، وأمَّا الوقف؛ فإن أنسًا لم يرفعه) انتهى.
(قَالَ)؛ أي: ميمون لأنس، ولأبوي ذر والوقت: (فقال)، وسقطت هذه الكلمة عند الأصيلي: (يَا بَا حَمْزَةَ) بالحاء المهملة والزاي، أصله: يا أبا حمزة، فحذفت الهمزة للتخفيف، وأبو حمزة كنية أنس بن مالك؛ (وَمَا يُحَرِّمُ)؛ بالتشديد من التحريم، وكلمة (ما) : استفهامية، وهو بواو العطف على شيء محذوف، كأنه سأل عن شيء قبل هذا، ثم قال: (وما يحرم)، ولم تقع الواو في رواية الأصيلي وكريمة، قاله إمام الشَّارحين.
وقد انتهت الجهالة إلى ابن حجر؛ حيث زعم أن الواو استئنافية.
ورده إمام الشَّارحين (فقال: الاستئناف كلام مبتدأ، وحينئذ لا يبقى مقول لـ «قال»، فيحتاج إلى تقدير) انتهى.
قلت: والقاعدة: أنه إذا اجتمع التقدير وعدمه؛ فعدمه أولى عند المحققين، على أن الكلام متعلق بما قبله؛ فلا وجه لجعله استئنافًا؛ فافهم
(دَمَ الْعَبْدِ) أي: الرجل المسلم (وَمَالَهُ؟)؛ يعني: ما يدخل دم المسلم وماله في العصمة حتى لا يجوز التعرض له بسوء بغير حق، وإنما وصف المسلم بالعبودية؛ لأنها أشرف المقامات، ولهذا اختارها تعالى لنبيِّه الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ حيث قال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: ١]؛ فافهم.
(فَقَالَ) أي: أنس بن مالك لميمون: (مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) وحده لا شريك له، في ألوهيته بذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، بأن أقر بذلك وصدق، (وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا) أي: طلب التوجه لقبلتنا؛ وهي الكعبة، (وَصَلَّى صَلَاتَنَا) أي: بالركوع والسجود والقعود، (وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا)؛ أي: المذبوحة بأيدي المسلمين، فإن اليهود لا تأكل ذبيحة المسلمين؛ (فَهُوَ الْمُسْلِمُ) حقًّا فيحرم دمه وماله إلا بحق؛ يعني: من فعل هؤلاء الثلاثة؛ فهو معصوم الدم والمال إلا بحقها، (لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِ) أي: من النفع، (وَعَلَيْهِ مَا عَلَى المُسْلِمِ)؛ أي: من المضرة،