للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

ومطابقة هذا الحديث للترجمة في قوله: (في قبل الكعبة)؛ والمراد: مقابل الكعبة؛ وهو مقام إبراهيم عليه السَّلام، والله تعالى أعلم.

(٣١) [باب التوجه نحو القبلة حيث كان]

هذا (باب) بيان حكم (التوجه نحو)؛ أي: إلى جهة (القِبْلة)؛ أي: الكعبة (حيث كان)؛ أي: حيث كان المصلي؛ أي: حيث وجد في سفر أو حضر، و (كان) : تامة؛ فلذلك اقتصر على اسمها، والمراد به: في صلاة الفرض؛ لقوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: ١٤٤]، والمناسبة بين البابين ظاهرة، (وقال أبو هريرة) : هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه: (قال النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم: استقبِلِ القِبْلة)؛ بكسر اللام، وكسر القاف، وسكون الموحدة؛ أي: توجه إليها حيث كنت، (وكبِّر)؛ بكسر الموحدة فيها على الأمر، (وكبِّر)؛ بالواو، وفي رواية الأربعة: (فكبِّر)؛ بالفاء، وللأصيلي: (قام النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم استقبَل، فكبَّر)؛ بالماضي (١)، وفتح الموحدة فيهما، وهذا التعليق طرف من حديث المسيء صلاته رواه المؤلف في (الاستئذان)، ولفظه هناك: (ثم استقبل القبلة، فكبر)، وتمامه هناك؛ فافهم.

[حديث: كان رسول الله صلى نحو بيت المقدس ستة عشر]

٣٩٩ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن رجَاء)؛ بالمد مع تخفيف الجيم: هو البصري الغُداني؛ بضم الغين المعجمة (قال: حدثنا) وللأربعة: (حدثني)؛ بالإفراد (إسرائيل) : هو ابن يونس بن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، (عن) جده (أبي إسحاق) : هو عمرو بن عبد الله السبيعي الكوفي الهمداني التابعي، لا يقال: إنه مدلس؛ لأنَّا نقول: إن المؤلف ساقه في (التفسير) من طريق الثوري بلفظ: (عن أبي إسحاق: سمعت البراء) (عن البَراء)؛ بفتح الموحدة، والراء المخففة (بن عازب) : هو أبو عمرو أو أبو عامر الأنصاري الأوسي، المتوفى بالكوفة سنة اثنتين وسبعين، الصحابي الجليل رضي الله عنه، وسقط: (ابن عازب) للأصيلي، (قال: كان رسول الله) : وللأصيلي: (النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) : إفادة (كان) الدوام والاستمرار (صلَّى نحو) أي: جهة (بيت المَقْدس)؛ بفتح الميم، وسكون القاف، مصدر ميمي؛ كالمرجع، وذلك بالمدينة المنورة (ستة عشر شهرًا) : من الهجرة على الأصح، كذا زعمه النووي، (أو سبعة عشر شهرًا) : هو الصحيح، وهو قول أبي إسحاق، وابن المسيب، ومالك بن أنس، والشك من البراء، وكذا وقع الشك عند المؤلف في رواية زهير وأبي نعيم، ورواه أبو عوانة في «صحيحه» من رواية أبي نعيم، فقال: (ستة عشر شهرًا) من غير شك، وكذا في رواية مسلم من رواية الأحوص، والنسائي من رواية زكريا بن أبي زائدة، ووقع في رواية أحمد والطبراني عن ابن عباس: (سبعة عشر شهرًا)، كذا قاله الشَّارح، ثم قال: والجمع بينهما أن من جزم بـ (ستة عشر)؛ أخذ من شهر القدوم وشهر التحويل شهرًا، وألغى الأيام الزائدة فيه، ومن جزم بـ (سبعة عشر شهرًا)؛ عدهما معًا، ومن شك؛ تردد فيهما، وذلك أن قدومه عليه السَّلام المدينة كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف رجب في السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور، ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس، وقال ابن حبان: (سبعة عشر شهرًا، وثلاثة أيام)، وهو مبني على أنَّ القدوم كان في ثاني عشر ربيع الأول، وقال ابن حبيب: (كان التحويل في نصف شعبان)، وهو الذي نقله النووي وأقره، ورجح في «شرح مسلم» رواية: (ستة عشر شهرًا)؛ لكونها مجزومًا بها عند مسلم، ولا يستقيم أن يكون ذلك في شعبان، إلا إن ألغي شهرا القدوم والتحويل؛ فافهم.

وجاءت فيه روايات أخرى، ففي «سنن أبي داود» و «ابن ماجه» : (ثمانية عشر شهرًا)، وزعم الطبري (ثلاثة عشر شهرًا)، وفي رواية: (سنتين)، وأغرب منهما: (تسعة أشهر، وعشرة أشهر)، وهما شاذتان، انتهى.

وزعم الطبري أن صلاته عليه السَّلام كذلك كانت بأمر الله تعالى له، انتهى.

قلت: ويحتمل أنها كانت عن اجتهاد منه عليه السَّلام، وفي حديث الطبري من طريق ابن جريج قال: (أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، فصلى ثلاث حجج، ثم هاجر فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرًا، ثم وجهه الله تعالى إلى الكعبة)، وفي حديث ابن عباس عند أحمد من وجه آخر: (أنه عليه السَّلام كان يصلي بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه).

قلت: ويجمع بينهما بحمل صلاته في المدينة على الاستمرار باستقبال بيت المقدس، كذا قيل، وفيه نظر، وقد صرح في حديث الطبري بطريق الجمع بين حديث الباب وحديث ابن عباس؛ فافهم.

(وكان رسول الله رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يحب أن يُوجَه)؛ بضم أوله، وفتح الجيم، مبنيًّا للمفعول؛ أي: يؤمر بالتوجه (إلى الكعبة) وفي حديث ابن عباس عند الطبري: (وكان يدعو وينظر إلى السماء).

قلت: روي: أنه عليه السَّلام قال لجبريل: «وددت لو أن الله يصرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها»، فقال: إنَّما أنا عبد مثلك، وأنت كريم على ربك، فادع ربك وسله، ثم ارتفع جبريل، وجعل عليه السَّلام يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي يسأل ربه، (فأنزل الله عز وجل: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ})؛ أي: تردد وجهك في جهة السماء؛ تطلُّعًا للوحي، وقيل: معناه: تحول وجهك إلى السماء، فيكون قوله: {فِي السَّمَاءِ} متعلقًا بقوله: {تَقَلُّبَ}؛ بتقدير: في النظر إلى السماء، وكان الظاهر أن يقول: تقلب عينيك في النظر إلى السماء، إلا أن تقلب الوجه لمَّا كان أبلغ في انتظار الوحي؛ كان ما عليه النظم أبلغ، وكلمة (قد) : للتكثير؛ ومعناها: كثرة الرؤية؛ لأجل طلب مقصوده، قال تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ} [البقرة: ١٤٤] : اصرفه شطر المسجد الحرام؛ أي: نحوه، والمراد به: الكعبة، وإنما ذكر المسجد دون الكعبة؛ لأنَّه عليه السَّلام كان في المدينة، والبعيد عنها يكفيه مراعاة الجهة، (فتوجه) عليه السَّلام بعد نزول الآية (نحو الكعبة)؛ أي: جهتها، وإنما كان يحب أن يوجه إليها؛ لأنَّها قبلة أبيه إبراهيم، وأسبق القبلتين بالنسبة إلى أهل الإسلام، ولأنها أدعى للعرب إلى الإيمان؛ لأنَّها كانت مفخرةً لهم، وأمنًا، ومزارًا، ومطافًا، ولأجل مخالفة اليهود؛ لأنَّهم كانوا يقولون: إنه يخالفنا في ديننا، ثم يتبع قبلتنا، ولولا نحن؛ لم يدر أين يستقبل؟ فعند ذلك كره عليه السَّلام أن يوجه إلى قبلتهم، فحقق الله تعالى رجاءه صلَّى الله عليه وسلَّم.

(وقال السفهاء من الناس) ونزول آية: {قَدْ نَرَى} متقدمة في النزول على قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} [البقرة: ١٤٢]، ذكره القرطبي (وهم اليهود) : هذا تفسير من البراء بن عازب، ومثله روي عن ابن عباس رضي الله عنهم، وقال الحسن: (هم مشركو العرب)، وقال السدي: (هم المنافقون)، ولا تنافي بين هذه الأقوال؛ لأنَّ كل واحد منهم من هؤلاء الفرق سفهاء طعنوا في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فالظاهر إبقاء اللفظ على عمومه، وقد وصف الله تعالى هؤلاء الفرق بالسفاهة في قوله تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ


(١) في الأصل: (بالميم)، والمثب موافق لما في هامش «اليونينية» من رواية الأصيلي.

<<  <   >  >>